علي حمود الحسن
نادراً ما نجد فناناً يتخلى عن كل شيء، بما في ذلك الأهل والتقاليد الصارمة، من أجل مواصلة مسيرة فنه النبيل، سناء جميل، أو "كونتيسة المسرح" مثلما يحلو للجمهور تسميتها فعلت ذلك، والأكثر من هذا تمردت على تقاليد أسرة صعيدية مسيحية متشددة، إلى حد أن أخاها الذي سكنت في بيته وسط القاهرة،طردها بعد أن عجز عن ثنيها عن التمثيل في المسرح.
بنت المنيا المولودة في مركز ملوي عام 1930، واسمها الحقيقي ثريا يوسف عطا، وجدت نفسها وهي ابنة تسع سنين في مدرسة داخلية للراهبات، وقد دفعت أسرتها تكاليف دراستها مقدماً، ربما لأن أبويها توفيا وتبناها أخوها الذي أدخلها المدرسة، لتكمل مراحل دراستها كافة، بعد زواجه واستقلاله في بيت بالقاهرة، فتعلمت فيها الفرنسية والتربية الصارمة، شغفت بالتمثيل مبكراً، وأرادت الالتحاق بالمعهد العالي للمسرح، فلاقت رفضاً وتعنتاً، لكنها أصرت حتى لوكان الثمن قطيعة لم تنته حتى بموتها في العام 2002، إذ لم تلق أسرتها النظرة الأخيرة على جثمانها، مثلما ذكرت المخرجة وكاتبة السيناريو روجينا بسالي في كتابها المنصف "حكاية سناء".
ربما من حسن حظ الصبية التي ارتقت المسرح لتؤدي دوراً في المسرحية الفرنسية "زواج فيجارو"، حضور عميد الأدب العربي طه حسين العرض المسرحي، الذي أثنى على أدائها بقوله: "فليس لأحد على تمثيلها سبيل".. فانطلقت في هذا العالم المحرم على أمثالها، متحملة مقاطعة الأهل ونظرة الأقارب والجوع والفاقة، وهي الصبية الغريرة، حتى أنها كانت تأكل وجبة واحدة في اليوم، التحقت بالمعهد العالي للمسرح، وكان عميده يومئذ الفنان المسرحي زكي طليمات الذي تعاطف معها ووفر لها سكناً وعملاً، وكان حانياً عليها متيقناً من موهبتها وشجاعتها، انطلقت في عالم المسرح الجميل وقدمت عشرات الأعمال المسرحية باللغتين العربية والفرنسية، ولأن عربيتها كانت "مش ولا بد" استدعى طليمات أصحاب الخبرة من الفنانين، لتعليمها أصول اللغة ومخارج الألفاظ ، فذاع صيتها وأحبها الجمهور، وكم كانت سعيدة، حينما وقع نظرها على أخيها بين الجمهور، وقتها كانت في ذروة نجاحها وانبهار الجمهور بها، ليس لأنه حضر المسرحية، إنما فقط ليعرف أهلها أن عملها في المسرح، هو رفعة وقيمة وليس انحطاطاً وابتذالاً. اختارها صلاح أبو سيف لأداء دور نفيسة في فيلمه "بداية ونهاية"، المقتبس من قصة نجيب محفوظ، بعد أن رفضت الدور فاتن حمامة وممثلات أخريات، فقدمت سناء جميل دوراً خالداً، مجسدة شخصية نفيسة المغلوبة على أمرها والمنتهكة أسرياً، وفيما بعد اجتماعياً، فهي كما تقول "أحسست أني أعبر عن أشياء تخصني"، لتتحول إلى ممثلة رقم واحد، إذ تهافت عليها المنتجون واختارها مخرجون بطلة لأفلامهم فمثلت في "المستحيل"، و" فجر يوم جديد"، و"الزوجة الثانية"، و فيلم "الرسالة"، فضلاً عن عشرات الأفلام الأخرى، أما على صعيد التلفزيون فإنها قدمت أعمالاً درامية لا تنسى على شاكلة "ساكن قصادي"، و"هارب من الأيام"، و"الراية البيضا"، وعشرات من الأعمال والسهرات التلفزيونية، مسرحياً أنجزت سناء جميل أكثر من 45 عملاً مسرحياً أشهرها: "ليلة مصرع جيفارا" ، و"الناس الي فوق"، و"ماكبث"، و "الحصان"، و"زهرة الصبار".
عاشت سناء جميل حياة قاسية، وأخفقت في زواجها أكثر من مرة، لكنها وجدت سعادتها وأمانها مع الناقد الفني والصحفي المعروف لويس فرنسيس، الذي تزوجها ودعمها كي تتفرغ لفنها، ومن المفارقات أن فرنسيس عندما قرر الاقتران بها، واجهته مشكلة تحويل ديانته من المسيحية إلى الإسلام، لاعتقاده أن سناء جميل مسلمة، لأنها كانت تحلف دائماً و"النبي"، ليكتشف فيما بعد أنها مسيحية مثله، بحسب كتاب "حكاية سناء
" لروجينا بسالي.