سالم مشكور
علّق أحد المتابعين على منشور لي عن الجدل الدائر حول تعديل قانون الأحوال الشخصية متسائلاً: وهل تقبل بالتعديل الذي يسمح بتزويج البنت في عمر التسع سنوات؟. أجبته بسؤال أيضا: هل تتفضل عليّ بنص التعديل الذي ينص على هذا؟، أجاب: هكذا يقولون في الإعلام؟
هنا يكمن الخلل الدائم، الذي يبني العقل الجمعي ويؤدي الى انتهاج سلوك القطيع.
قديما كان الناس يطلقون على الكلام المشكوك بصحته بأنه «كلام جرائد»، بما يعني أن الجريدة (كانت وسيلة الإعلام الأشهر)، لا يمكن الركون إلى ما تنشره، ولا يمكن اعتباره حقيقة لا نقاش فيها، مع أن الجريدة عادة ما توثِّق ما تنشره من معلومات، حرصا على سمعتها والتزاما بالضوابط، التي تفرضها الجهات الرقابية. الإعلام اليوم توسع، وبات مفتوحاً لكل من هبّ ودب، يدلي برأيه دون إحساس بالمسؤولية، ودون مراعاة لمصلحة عامة. ولم يقتصر هذا الفلتان على متحدثين يطلقون الكلام المضلل جهلا أو عمدا، من خلال الإعلام المرئي والمسموع، بل تعداه الى وسائل التواصل، التي لا ضوابط للنشر فيها، إلّا ما يتعلق بسياسات دول كبرى وكتل ضغط دولية. هذه الوسائل باتت مرتعا لكل جاهل أو مضلل عامد في نشر ما يريد، ما يُربك الوعي ويخلق اتجاهات رأي عام مشوّه، أقلّه إنّه يصدق ما يسمعه ويراه ويتبناه من دون تفكير.
يفرّق كثير من الكتاب بين مصطلحي «العقل الجمعي» و»سلوك القطيع». فالأول الذي يسميه غوستاف لوبون مؤلف كتاب «سايكولوجية الجماهير» بـ «عقل الجماعة» هو فعل إرادي للانسجام مع الجماعة حتى مع الإدراك بأن الفعل خاطئ أو غير عقلاني أو غير ضروري. الدافع هنا هو الرغبة في تحاشي التمايز عن الجماعة. ينسب مصطلح «العقل الجمعي الى اثنين من العلماء الفرنسيين، هما غبريل دي تارد، إضافة الى غوستاف لوبون.
أما مصطلح «سلوك القطيع» فلا يعرف من صاغه، لكن فكرته ظهرت في رواية للكاتب الفرنسي «فروانسوا رابليه» عندما يصف نزاعاً على ظهر سفينة، بين بطل الرواية «بانورج» وتاجر أغنام شرس الطباع، كان يسافر على متن السفينة نفسها، مع قطيع من أغنامه. تقول الرواية إن بانورج اشترى أكبر الخراف حجماً بسعر عالٍ، أسعد قلب التاجر. لكنه في لحظة غيظ، وقف أمام قطيع الأغنام ثم دفع الخروف إلى البحر. وخلال لحظات، تحرك خروف آخر إلى حافة السفينة، وألقى بنفسه في البحر، وتبعه ثالث ورابع، وهكذا فعلت جميع الخراف.
هذا ما يفعله كثير من الناس الآن في العراق وغيره. بات تراجع الوعي والانسياق وراء ما يقال هو السمة الغالبة على سلوك المجتمع. وما يجري من نقاش حاد حول التعديل المزمع لمادة في قانون الاحوال الشخصية يعطر صورة واضحة لهذا الأمر. تشكل هذه الحالة بيئة خصبة، لمن يريد إطلاق فكرة معينة أو مواجهة فكرة أو مشروع قانون أو سياسة معينة. يساعد في ذلك سقف الحرية العالي وانفلات وسائل التواصل وضعف تطبيق القانون، وحالة الانقسام في البلاد حول كل ملف أو قضية، بحيث تأخذ أبعادا سياسية أو طائفية. هكذا نرى الكثيرين اليوم يتحدثون عن أمور لا وجود لها في مشروع التعديل، لكنهم يتلقفونها ممن يشيعونها ابتغاء هدف مشبوه. هذه البيئة الخصبة تجتذب جهات خارجية، عبر أدوات داخلية، من أجل تنفيذ سياسات قد تستهدف المجتمع وقيمه وأخلاقه، وديمقراطيته التي تسير ببطء شديد نحو الترسّخ.
غريب أن نرى منظمات خارجية تدعم أدوات عراقية لها، من أجل التصدي لمقترح قانون منسجم مع الدستور، ويسلك آليات دستورية، ليصل إلى قرار من قبل ممثلي الشعب، سواء بالرفض أو القبول، فيما تدعى هذه المنظمات أنها تهدف إلى ترسيخ الديمقراطية وحقوق الإنسان.
واضح أن الهدف البرّاق المعلن هو مجرد غطاء لهدف لا تخفيه هذه المنظمات، وهو تدمير المجتمع أخلاقياً. أحدى أدوات المنظمة ترفع شعار الدفاع عن حقوق المرأة العراقية، وفي برنامجها تفصح أنها تدافع عن حقوق الشواذ وقامت بإيجاد مراكز لإيوائهم. الأغرب من كل ذلك، أن كل هذا يتم بعلم جهات رسمية وسكوتها.