محمد طهمازي
“الطريف في مسألة التعذيب إن كان في الأمر ما يدعو للطرافة هو أنه من أصول لعبة التعذيب أن يُتقن الجلّاد عمله فلا يتسبَّب في موت الضحية، الموت الداخلي هو المطلوب وليس الموت الخارجي والجسدي”.. ممدوح عدوان.
إنَّ طقس الصلب أو مفهومه لم يُستوحَ من نزعة خيالية أو من بنات أفكار فئة من الناس بل كان امتدادًا أكيدًا لطقوس الأضحية البشرية القديمة لتطهير الناس من آثامهم، طلب مرضاة الآلهة عنهم ومنحهم بركاتها وما يرغبون.
ويكون الضحية في تلك الأزمان من المختارين رجالًا أم نساءً ممن لم يمارسوا الجنس بعد على اعتبار الجنس عملية تُفقد الكائن البشري طهارته وفق مفاهيم تلك الشعوب البدائية وبالتالي لا تتقبله الآلهة وهو ما تناغم مع فكرة بتولية المسيح، وزادوا عليه بكونه لم يولد نتيجة ممارسة جنسية، ولاحقا رجال دينه.
ثم تأتي هنا فكرة الصلب كبديل عن فكرة الذبح، التي صارت أو اعتبروها وثنية هنا، لتكثيف درامية حالة الألم والمعاناة إلى أقصاها، الأمر الذي ما كانت لتحققه عملية الذبح ولا انتزاع قلب الضحية من قفصه الصدري وهو حي حيث تنتهي معاناته في وقت قصير، بما يمثل وجهًا من وجوه السادية التي تتلذذ بتعذيب الآخر لكنها تواري هذه الغريزة المرضية خلف فكرة طهرانية مقدسة أو قصاصية لتحاشي وضعها في حيز الجريمة عبر إخراجها من الفعل الجرمي المرضي الآثم إلى الفعل السماوي المطهر لآثام البشر وخطاياهم والمنقذ لهم من الوقوع في النار والخلود فيها أبدًا. بعد هذه الانتقالة أو التخريجة السادية التي تحوّلت لرمز بدأنا نرى توالد حالات تطهيرية منها على مستوى الجماعة والأفراد في عمليات إيذاء النفس بداعي تقليد المضحي الفادي المطهر والمخلص ومعايشة عذاباته وآلامه في رغبة عارمة لكنها غير معلنة، تنام في اللاوعي، في الحلول بدل ذلك الرمز أو تقمص شخصيته بسبب استحالة إقصائه من عرشه الرمزي ما يُشعر الفاعل بحالة من الفخر والنشوة. وهذا كان لابد له من جو كرنفالي يمنحنا الفنان نموذجًا له في حركة الجمع الذي يرفع المسيح على صليبه في ذلك التقوس الديناميكي المتصاعد مثل موجة تضرب جرفا صخريا ثم تعود أدراجها إلى البحر لتعود ثانية وثالثة ورابعة في إصرار لا يتوقف، إصرار غريب وغير مفهوم وغير منطقي تماما كما الهيام المعتقدي. الكرنفال يعطي الطقس فورانه وإشاعته واستمراريته وهو قابل للإضافة دائمًا ومستعصٍ على أي محاولة للحذف. إنَّ هذه المعمارية المشدودة الحيوية التي أخذ بها الهولندي بيتر بول روبنس، وهو خير ممثل لمدرسة الباروك التي جمعت بين أسلوب المدرسة الإيطالية وواقعية المدرسة الفلامنكية، سنجد معماريات أقل حدة وحبكة حركية لفنانين آخرين لكن في عملية إنزال المسيح عن صليبه وليس رفعه على الصليب قد تصل إلى نوع من الجمود والسكون وكأنَّ الفعل المسرحي وصل لنهايته وأخذ الستار ينسدل بهدوء على ظلمة ووجوه واجمة تبوح بحزنها حينًا وتمتنع عن أي بوح أحيانًا.
يبرز في هذه اللوحة أسلوب روبنس الذي تميز بالألوان المثيرة والحبكة المتوهجة وقوة تعبيرية واضحة هنا وفي كثير من مواضيعه التي نرى من خلالها حماسه لأفكار الحركة الإصلاحية التي واجهت العقيدة الكاثوليكية. يظهر شخوص روبنس وكأنهم يشدون شراع مركب تمهيدًا للإبحار ولعلَّ هذا مستوحى بشكل خفي من معجزة صيد السمك في بحر الجليل حين علّم المسيح تلاميذه طريقة الصيد في الصباح الباكر بعد عجزهم عن صيد سمكة واحدة طوال الليل. وقد تميز عن العديد من الرسامين الذين تناولوا هذه القصة بإنشائه الدراماتيكي ذاته الذي نراه في لوحة رفع المسيح على الصليب ولاحظ كذلك تشابه معمارية حركات الأجساد في اللوحتين، وهذان الأمران لم ينتبه إليهما نقاد الفن أبدًا. إنَّ روبنس يربط هنا بين معجزة صيد السمك في اللوحة الثانية وعملية الصلب التي أدّت إلى انتشار أفكار المسيح بدل طمسها وهذا يتطابق مع قول المسيح في إنجيل لوقا حين خرَّ بطرس ساجدًا معتذرًا من معلمه بعدما شكّ في تحقق معجزته، فأجابه يسوع:
«لا تخف من الآن سوف تصطاد الناس».
أي أنه جعل من صلب المسيح معجزة وليس من قيامته، إذ رأى فيما يبدو أنَّ تضحية المسيح هي صاحبة الفعل والتأثير الأكبر في الأتباع والصدمة التي استفزت الحالة الروحانية المسالمة لاحقا. إنَّ قيامة المسيح تحمل رتابة المعجزات التي سبقتها في إحيائه للموتى لكن أن يصلب هو على ما اختزن من قدرات إعجازية فتلك كانت الصدمة التي فاقت في وقعها كل المعجزات وكانت دافعًا للتمرد الحقيقي وليس الاكتفاء بالدعوة السرية ورواية قصص الخوارق.
يقول فريدريك دوغلاس: إنَّ الأخطر من التمرد هو الفعل الذي يدفعنا إلى التمرد.