كيف يبدو الاقبال على الروايات الرومانسية؟
باقر صاحب
أشّرت الصحافة الثقافية العربية في الفترة الأخيرة، عودة الروايات الرومانسية إلى الازدهار في الغرب المتقدم، تلك الروايات التي كان انتشارها الأول هناك، بين نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع، ويؤشّر على أن بروز الرواية عامة كشكل أدبي صاعد، ترافق مع الثورة الصناعية، وصعود نجم الطبقة البرجوازية، مترتّباً، على تلك الثورة في الحقبة المذكورة، فأصبح المنتمون إلى تلك الطبقة، يعيشون أجواء الترف والبذخ، ومن ثم فإنهم بحاجة إلى أجواءٍ رومانسية، فيها من العاطفة والغرام المشبوب الشيء الكثير، فيما يرى آخرون أن ظهور الرواية، بداية الرومانسية، يقف بالضد من صعود طبقة رأسمالية مترفة على حساب أغلبية كادحة.
وتعدُّ فرنسا الموئل الأول للروايات الرومانسية، التي ظهرت مبكراً، خلال الحقبة المشار اليها أعلاه، منها "بول وفيرجيني" عام 1789 لبرناردين دي سان بيير، و"آتالا" عام 1801 لشاتوبريان، و"كورين" عام 1807 لمدام دوستايل و"أدولف" عام 1816 لبنجامان كونستان.
وهنا نذكر ميزات الرواية الرومانسية بشكلٍ عام، قبل أن نخوض في بعض تفاصيل ازدهارها في اميركا وبريطانيا، بوصفهما في طليعة دول العالم الغربي، إذ تمكّنت هذه الروايات من أن تكون ملاذاً لقرائها من واقعهم المزري على الأرض، ومعايشة عالم العواطف الذي تهتمّ هذه الروايات في تصويرها بأحداثٍ مشوّقة، محفّزة أخيلة القراء على خلق عوالم رومانسيّةٍ خاصّةٍ بهم. كما من شأنها أن تعزز القيم الإيجابية، مثل الحب الصادق والأمل والتفاؤل بالمستقبل، كما تلهم قراءها بالبحث عن السعادة في الحب، بحسب عوالم الروايات التي شغفوا بها. وبما أنّ حبكاتها تنشد أواصر الحب بين شخصياتها رئيسة أو ثانوية، فهي، بالمحصّلة، عاملٌ مهمٌّ في تعزيز العلاقات الإنسانية. ومن خلال سيرورة تلك العلاقات تظهر للعيان أو بالتشريح دفائن الطبيعة البشرية، إذ تكون على المحك، عند إشهار مواقفها إزاء العقبات التي تعترض العلاقات العاطفية، التي تهتمّ تلك الروايات بتصويرها، هذه المواقف قد تمثّل ثيماتٍ عميقة، تهتم ببحثها الروايات الرومانسية، مثل التضحية، والتسامح، والشجاعة في تحدي المصاعب.
نشرت "الشرق الأوسط" اللندنية، مؤخراً، تقريراً عن الازدهار الحالي غير المسبوق للرواية الرومانسية، مصدر التقرير؛ خدمة نيويورك تايمز، تذكر فيه أنَّه بينما كانت الأدبيّات الرومانسية كانت ذات يوم مجالاً يتجاهله أصحاب المكتبات هنا، في اميركا، تحوّلت راهناً إلى إحدى أكثر الفئات رواجاً في عالم الكتاب، وأصبحت، إلى حدِّ بعيد، النوع الأدبي الأكثر مبيعاً، بل ذهبت بعيداً بالقول أن ازدهار الحالي "لا يعيد رسم ملامح المشهد العام لصناعة النشر فحسب، بل وكذلك صناعة بيع التجزئة".
وعلى أرض الواقع، فإنَّه بدلاً من مكتبتين متخصّصتين بالروايات الرومانسية، أصبحت هناك شبكةٌ وطنيّةٌ متخصّصةٌ بالروايات الرومانسية تضم 30 مكتبة. وبفضل ذلك، كما ورد في التقرير المذكور ، فإنّ مبيعات الروايات الرومانسية ازدادت من 20 مليون نسخة في عام 2020 إلى 39 مليون نسخة في عام 2023 ، بفضل تنامي الإدراك بأنّ هذه الروايات لا تحمل قيمةً تجاريّةً فقط، بل قيمةً فنيةً وترفيهيّة. ومن الأرقام المدهشة في هذا السياق، ذكر التقرير بأنّ 6 من أصل 10 من أفضل الروائيين مبيعاً داخل أميركا هم كتّاب أعمالٍ رومانسيّة، حيث الشهرة الكبيرة لروائيين رومانسيين، مثل ساره جيه. ماس وأشهر مؤلفاتها سلسلة رواياتها الخيالية الرومانسية "عرش الزجاج" و"محكمة الشوك والورود"، التي بيعت منها نحو 37 مليون نسخة في جميع أنحاء العالم بـ38 لغة، وكذلك الروائية الأمريكية ريبيكا ياروس، التي تمثل جيلاً جديداً من المؤلفين الأكثر مبيعًاً، ممن يكتبون "الرومانسية" الممزوجة بـ"الخيال" في رواياتهم. وهناك أيضاَ
إيميلي هنري وكولين هوفر، ممن يتصدرون قو ائم أفضل الكتب مبيعاً. هذه الاحصائيات عن عالم الرواية الرومانسية، لا بد أن يقف وراء تدعيمها الناشرون الذين تحوّلت وجهات نظرهم إزاء هذا النوع من الروايات، فقد كانوا يعتبرونها سطحيّةً وغير جادّةـ فضلاً عن بذاءة الكثير منها، وكانت غالباً ما توضع في رفِّ خلفي، داخل المكتبة.
ولا يقتصر الأمر على أميركا، بل في بريطانيا أيضاً، وتذكر الكاتبة ندى حطيط في تقرير لها عن معرض الكتاب في لندن العام الماضي، وهو الأكثر أهمية في معارض الكتب العالمية، العام الماضي، أنِّ موجة الروايات الرومانسية تحتلّ خمس الإنتاج العالمي من الكتاب، وعلى ذلك فإنه ليس بمقدور النقاد تجاهل هذا النوع من الأدب، إذا عرفوا بأنِّ صناعة الأدب الرومانسي تتجاوز الآن ملياري دولار أميركي في مجال الكتب - مطبوعة وإلكترونيّة ومسموعة – أي نحو خمس كلِّ إنتاج الكتب الأدبيّة العالمي سنوياً.
منصات التواصل
وبالتأكيد أن الترويج الإعلامي والتجاري للأدب الرومانسي جذب ملايين القراء النهمين، الذي باتوا يقتنون الكتاب تلو الآخر، خاصةً قصص الحب والغرام، التي ظهر تقدمها جليّاً على أنواع الرواية الأخرى. ويثار في الصحافة الثقافية العربية أنَّ أحد أسباب هذه المبيعات الهائلة للروايات الرومانسية الآن، يعود إلى الشعبية الكبيرة لمشاهير كتاب هذه الرواية على مواقع التواصل، حيث تذكر دار النشر الأميركية الشهيرة "بلومزبري" التي تنشر أعمال ساره جيه ماس بأنّ مقاطع الفيديو التي تحتوي على "هاشتاجات" مرتبطة برواياتها حقّقت أكثر من 14 مليار مشاهدة على TikTok . وتسهم منصة Book Tok، على الصعيد نفسه، وهي ركن تواصلي تُتداول فيه المحتويات المرتبطة بالكتب، حيث ينشر المتفاعلون تصنيفاتهم لسلاسل الروايات والكتب، وتصوّراتهم لنهاياتها.
دوافع عامة وخاصة
صعود موجة الأدب الرومانسي، خاصة الروايات، في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين تعاضدها غايات قرّاء هذا الادب، فالرجال يهوون استعادة الانغمار بالعواطف الرومانسية السامية وليس المبتذلة، أمّا النساء فهن يرمن من هذا النوع الأدبي التزوّد بجرعات الهروب من الواقع المحمّل بنذر الأخبار السلبية، فضلاً عن إنعاش العواطف الدافئة، ومعايشة النهايات السعيدة، وهي غالباً ما تميّز هذا النمط من الروايات.
كذلك أنّ الأخيلة الرومانسية تتيح لعشاق هذا الأدب، التحليق في أمكنةِ مختلفة، وأزمنةِ مختلفةٍ أيضاً، وتضعهم في ظروفٍ ومهنٍ مغايرةٍ لما هم عليه، وتذكر ندى حطيط، المقيمة في لندن معلومةً كبيرةً مفادها بأن علماء النفس يرون في أنّ الشغف بالأدب الرومانسي" يساعد على تحسّن الصحة العقليّة عموماً، ويمكن أن يعيد الحيوية حتى لعلاقاتنا القائمة".
على أنّ الأسباب الفردية التي تميل بالأشخاص رجالاً ونساءً، نحو قراءة هذا الأدب، لا يمكنها أن تسوّغ صعود هذه الموجة الرومانسية، بل لا بد أن هناك أسباباً عامة، تتعلق بشعور الغربيين عامة، والمنتمين للطبقات الوسطى، خاصة ممن تنامى لديهم الشغف بقراءة الرومانسيات، بسوء أحوالهم، نتيجة الأزمات الاقتصادية في الغرب، وما سببّت من بطالة، فضلا عن الأزمات التي ولدّتها الحرب الروسية – الأوكرانية، من ارتفاعٍ في أسعار الطاقة، التي يتبعها ارتفاع تكاليف المعيشة، هذا فضلاً عن تفشّي جائحة كورونا، التي أدّت، بالناس عادة والغربيين خاصةً إلى إعادة اكتشاف القراءة، بالإضافة إلى كوارث التغيّر المناخي، كلّ تلك الأسباب تزيد الشعور بأنَّ الأمور ليست ما يرام عالمياً. وهنا يمكن القول إنّ تعاطي هذا الادب، يُعدُّ بارومتراً لقياس مدى رداءة هذا العالم، وقوة اليأس المتنامية من العيش بواقعيةٍ في هذا العالم، ومن الأفضل الهروب منه إلى قصص الحب والنهايات السعيدة التي يُوسم بها الأدب الرومانسي.