رعد أطياف
معظم المتعصبين يخشى الاصطدام بالواقع كما هو فيلجأ إلى الجدل المنطقي، الذي يفوز فيه عادة الناس الثرثارون ذوو العقول الجوفاء. لا يمكنك الخروج بخلاصة مفيدة وأنت تخوض”حواراً موضوعياً” مع هذه الكائنات. سينتقل الحوار فوراً من طور الواقع إلى طور التجريد، فحينئذ ستضمن هذيانات المتعصب، والتي هي عبارة عن علف دسم من المنطق الجدلي العقيم، الفوز الكاسح في الحوار
ذلك ان الحوار في ضمير هذه الكائنات الغريبة عبارة عن ربح وخسارة! نعثر على هذا الشكل البغيض من الحوارات بين الطائفيين، فكلا الطرفين يتحولان إلى وحوش كاسرة، يعمد كل منهما إلى نهش الآخر بالصراخ والتمنطق الأجوف والاستعلاء والأستذة والتعمد الواضح في إرباك أحدهما الآخر، ثم ينتهي الحوار بالتعب المضني، كما لو أن ملاكمَين من الوزن الثقيل يتطاحنان فيما بينهما.
في الحقيقة لا أحد يستطيب الحياة أو يحصل له الشرف وهو يسمع تلك الكائنات البغيضة، لأنه يشعر بوصمة عار كبيرة، وهو يعاصر مثل هذه النماذج وهي تمر عليه بين الحين والآخر، ويقف كل شيء عاجزاً ومذهولاً للحد من هذه الظاهرة المرضية، التي يتناسل روّادها على مواقع التواصل وبالخصوص قناة يوتيوب. وبالطبع لا يتعلق الأمر بالتعصّب المذهبي، وإنما يتعدّاه إلى كل منظومة فكرية تعتقد بصحّتها الجازمة وعلميتها التي لا يرقى إليها الشك. ليس هذا فحسب، وإنما بيت الداء يبدأ من هنا: “الذات بوصفها عقيدة جامدة” وهو عنوان مقالتنا السابقة.
المتعصب توحشه فكرة الاختلاف وتعدد الرؤى، ويضيق ذرعاً بالاتجاهات الفلسفية، والعلمية، والفنية، التي تجري بالضد من هويته. لكنّه لا يتردد، بدون أدنى حياء، لاستخدام الفلسفة والعلم والفن لمنطقه الجدلي الأجوف. ويمكنه أن يصنع منها معماراً محكماً، كما يتوهم، للدفاع عن أوهامه. مهنة المتعصب هنا لا تختلف عن مهنة الضلّاع: ترقيع في ترقيع.
لا يتردد في جعل العالم طبقاً لصورته. إنه يتنازل عن عالمه الخاص قرباناً لما هو أوسع؛ تهويماته الذهنية المقطوعة الصلة مع الواقع. حتى لو أجبره الضغط للاعتراف بالآخر، فسيبقى ذلك الاعتراف امراً تكتيكياً ليس إلّا. وما أن يتحقق له النفوذ والهيمنة فسيعطي للعالم درساً في الدونية عز مثيله! لا أمان في هذا العالم طالما يوجد فيه متعصبون طليقون يتحكمون بمقدرات الناس.
فسواء كنا افراداً أو جماعات، من أهل الدين أو من أهل الدنيا، فنحن، على وجه العموم: «نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا..». الإيمان بالاختلاف يبدد هذه الظلمة. وربما من المفيد أن ننظر للعادات على أنها أكبر مضاد لعملية النمو والازدهار على صعيد الفرد والمجتمع، ولا يمكنها أن تتنازل عن هيمنتها بسهولة.
وبخلاف ذلك تتحول إلى قوة معادية وشرسة ما لم تتوفر فيها الطوعية والاختيار. ذلك أنه من الحماقة أن تزج الآخرين بحوارات لا يتوفر فيها عنصر الإصغاء والاختيار من الآخر.
ثمة إهانات طوعية كثيرة يقدم عليها المرء، ومنها البرهنة الشاقة والعسيرة لإقناع المتعصب.الحكمة تقول ينبغي ألا يضحي بسكينته النبيلة من أجل الثرثرة مع المعاندين. في النهاية: العقلاء ليسوا مبشرين. انهم ينثرون حبوب اللقاح في الهواء الطلق، فذلك أقصى ما يفعلون.