البكاء على الحسين {عليه السلام}.. فلسفته وآثاره

ريبورتاج 2024/08/22
...

 وسام الفرطوسي

البكاء ظاهرة إنسانيّة، بل هو أوسع من ذلك، والبكاء كحالةٍ في مقام الحكم القيميّ، لا يصحّ القول إنّها حالة إيجابيّة دائماً أو سلبيّة دائماً، بل إن الأمر يرتبط بسبب هذه الحالة وأهدافها ونتائجها، فإذا كان البكاء مرتبطاً بالأهداف الدينيّة، ويحاكي القيم الدينيّة بمفهومها الشامل، فهو أمرٌ محمود، كأن يكون البكاء لله تعالى أو من خشيته تعالى؛ فهنا سوف يكون للبكاء نتائجه الإيجابيّة ذات البعد المعنوي والأخلاقيّ وسوى ذلك. أما إذا كان البكاء مرتبطاً بأهدافٍ لا تنسجم مع الأهداف والقيم الدينيّة والأخلاقيّة، فعندها سوف يكون أمراً مذموماً، ولن تكون نتائجه إيجابيّة، بل سوف تكون على العكس من ذلك.

فلسفة البكاء

عندما نأتي إلى قضيّة الإمام الحسين (ع)، فإنّنا نبكي على تلك الجرأة على الله بقتل وليّه (ع)، وغضباً له، وعلى انتهاك حرمة رسول الله (ص) بقتل حفيده (ع)، نبكي على مخالفة الدين الّتي حصلت بقتل الحسين وأهل بيته وأصحابه (ع)، نبكي على تجاوز حدود الله، وعلى الاعتداء على محارم الله، وارتكاب الذنوب العظام والمعاصي الجسام، ومخالفة أوامر الله تعالى وركوب نواهيه.

لقد مثّلت كربلاء ذروة الجرأة على الله تعالى والانقلاب على رسول الله (ص)، ولم يمضِ إلّا خمسون عاماً على وفاته (ص)، حتّى ينقلب الكثير من أبناء أمّته على حفيده وأهل بيته، فيعملون فيهم تقتيلاً وسبياً وتجريحاً وظلماً وتنكيلاً، لا لأمرٍ، إلّا لأنّهم رفضوا السكوت على الانحراف والرضوخ للذلّ.

لذلك، فإنَّ البكاء على الإمام الحسين (ع) هو بكاءُ رفضٍ للجرأة على الله تعالى، وعلى الانجرار إلى الدنيا وحبّها والتعلّق بها، وبكاءُ اعتراضٍ على فعل الذنوب وارتكاب المعاصي، هو بكاءُ نهيٍ عن المنكر والفساد، وهو بكاءُ أمرٍ بالمعروف والإصلاح، وهو أيضاً بكاءُ غضبٍ من كلّ المظالم الّتي حصلت والّتي تحصل؛ أي هو بكاء رفض للظلم والذلّ، ودعوة إلى العدل وفعل الثورة، هو بكاء يدعو إلى الثورة على الفساد والانحراف والظلم، ويرفض الخضوع والخنوع والرضوخ للظالم.

إنّ ما يقود إليه هذا البكاء هو أنّه يدفعنا إلى رفض الظلم والخضوع؛ لأنّ من يبكي على تلك المظالم الّتي حصلت في كربلاء، حريٌّ به ألّا يقدم على ارتكاب الظلم، بل حريٌّ به ألّا يقبل بأيّة مظلمة، مهما صغرت، وجدير به أنْ يرفض الظلم والخضوع للظالم، وأنْ يحصِّن نفسه من أنْ يسايرَ أو يداهنَ أو يركنَ للذين ظلموا، لأنّ ذلك كلّه يخالف رسالة الدمعة، وهدف البكاء على الإمام الحسين

(ع).


بكاء الرسول محمد «ص»

روى أحمد بن حنبل من حديث عليٍّ (ع)، بإسناده إلى عبد الله بن نجى، عن أبيه: أنّه سار مع عليّ (ع)، فلما حاذى نينوى، وهو منطلقٌ إلى صفّين، نادى: «اِصبر أبا عبد الله! اِصبر أبا عبد الله بشطّ الفرات!». قلتُ: وماذا؟ قال: 

«دخلتُ على النبيّ (ص) ذات يوم، وعيناه تفيضان، قلتُ: يا نبيَّ الله، أغضبكَ أحد؟ ما شأنُ عينيك تفيضان؟! قال: بل قام من عندي جبريل قبل، فحدّثني أنّ الحسينَ يُقتَل بشطّ الفرات، قال: فقال: هل لك إلى أن أشمّك من تربته؟ قال: قلتُ: نعم، فمدّ يده، فقبض قبضةً من ترابٍ، فأعطانيها، فلم أملك عينيّ إن

فاضتا».

بكاء أمير المؤمنين (ع)

عن ابن عبّاس، قال: كنت مع أمير المؤمنين (ع) في خرجته إلى صفّين، فلمّا نزل بنينوى، وهو شطّ الفرات، قال بأعلى صوته: «يابن عبّاس، أتعرف هذا الموضع؟» قال: قلتُ: ما أعرفه يا أمير المؤمنين، فقال: «لو عرفته كمعرفتي، لم تكن تجوزه حتّى تبكي كبكائي»، قال: فبكى طويلاً حتّى اخضلّت وسالت الدموع على صدره، وبكينا معه، وهو يقول: «أوه! أوه! مالي ولآل أبي سفيان! مالي ولآل حرب!».

وهكذا بكاء السيّدة الزهراء (ع) والأئمّة الأطهار (ع).

آثار البكاء في الدنيا

عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (ع) أنّه تلا هذه الآية: «﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلحَيَوٰةِ ٱلدُّنيَا وَيَومَ يَقُومُ ٱلأَشهَٰدُ﴾ ، الحسين بن عليّ منهم. ووالله، إنّ بكاءكم عليه، وحديثكم بما جرى عليه، وزيارتكم قبره، نصرةٌ لكم في الدنيا، فأبشِروا، فإنّكم معه في جوار رسول الله (ص)».قال لي أبو عبد الله (ع): «يا مسمع... رحم الله دمعتَك، أما إنّك من الّذين يُعَدّون من أهل الجزع لنا، والّذين يفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا، ويخافون لخوفنا، ويأمنون إذا أَمِنّا، أما إنّك سترى عند موتِك حضورَ آبائي لك، ووصيّتَهم ملكَ الموت بك، وما يَلْقَونَك به من البشارة أفضل، ولَملكُ الموت أرقُّ عليك وأشدُّ رحمةً لك من الأمّ الشفيقة على ولدها» .

آثار البكاء في الآخرة

عن الإمام الصادق (ع): «ومَنْ ذُكِرَ الْحُسَيْنُ عِنْدَهُ، فَخَرَجَ مِنْ عَيْنِهِ مِنَ الدُّمُوعِ مِقْدَارُ جَنَاحِ ذُبَابٍ، كَانَ ثَوَابُهُ عَلَى اللَّهِ، ولَمْ يَرْضَ لَهُ بِدُونِ

الْجَنَّةِ» .

وعن الإمام الباقر (ع): «أَيُّمَا مُؤْمِنٍ دَمَعَتْ عَيْنَاهُ لِقَتْلِ الْحُسَيْنِ (ع) دَمْعَةً حَتَّى تَسِيلَ عَلَى خَدِّهِ، بَوَّأَهُ اللَّهُ بِهَا فِي الْجَنَّةِ غُرَفاً يَسْكُنُهَا أَحْقَابا».


مَن لم يستطِع البكاء فليتباكَ

عن أبي عمارة المنشد، عن أبي عبد الله (ع)، قال: «يا أبا عمارة، من أنشد في الحسين (ع) شعراً فبكى، فله الجنّة، ومن أنشد في الحسين (ع) شعراً فتباكى، فله الجنّة».والمراد من التباكي إظهار البكاء باستشعار الحزن في القلب، وحثَّ النفس على البكاء، أو فعل تكلّف البكاء، وليكن ذلك بدافع التقرّب إلى الله جلّ وعلا، ليكون عبادة.

والتباكي هنا كالتباكي من خشية الله، على ما في وصيّة النبيّ (ص) لأبي ذرّ: «يا أبا ذرّ، مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَبْكِيَ قَلْبُهُ فَلْيَبْكِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُشْعِرْ قَلْبَهُ الْحُزْنَ وَلْيَتَبَاكَ. يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّ الْقَلْبَ الْقَاسِيَ بَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ، وَلَكِنْ

لَا يَشْعُرُون‏».