سوسن الجزراوي
لا يُصاب الإنسان بفقدان الذاكرة (ألزهايمر) حسب، بل حتى التأريخ تنتقل إليه عدوى هذا التخبط الفكري وتشويش الذاكرة السرديَّة! نعم فكثيراً ما ينسى التاريخ وقائعه وأشخاصه، فيهرول بعيداً عن ساحات السباق، تاركاً الفرسان الأصلاء وحيدين مع جيادهم. إنَّها مأساة البشريَّة عندما تتنكر التواريخ وسجلات الحفظ والتدوين لأصحابها.
يقول أحد المؤرخين: ( التاريخ أعظمُ مُعلّمٍ للبشريَّة، فيه الحِكم والعبر، فيه التجارب والسير، منه نعرف الصواب فنتبناه، ونعرف الخطأ فنتفاداه.. هو الأصل الذي منه تتفرع الفروع).
وانطلاقاً من هذه المقولة، ولأنَّ التاريخ الحقيقي يصنعه أناسٌ يمتلكون تأثيراً كبيراً، كان من الضروري الاهتمام بصناعة كتّاب مخلصين يتذكرون منجزات من سبقهم في كل تفاصيل الحياة كي لا تصاب الأجيال المتعاقبة بخيبات الأمل وهي تقرأ في رواقٍ منسيٍ، كتاباً يتحدث عن مبدعٍ نسيه المدوّن، بل قد يكون تناساه عمداً.
ويُعدُّ تغييب الأشخاص ونكران أمجادهم، والتقليل من قيمة منجزاتهم، واحداً من أكثر الأخطاء التي يمارسها كتّاب التاريخ من جهة، ومن عاصر أولئك من جهة أخرى، فالشمس لا يحجبها الغربال، ومثلما يهمل من يهمل منجزي ومنجزك وبصمتي وبصمتك، فهناك موجودٌ الأثر، هذا الذي لا ينتظر من مؤرشف الأحداث أنْ يتمنن عليه فيكتبه بين أسطر الذاكرة، فالمنتصر لا يغادر أرض المعركة من دون أسلحته، وسلاح المبدع أثره الذي نقرأه في مدوّنة هنا أو هناك، في لوحة مرسومة بحبٍ، في إعجازٍ لغويٍ تتناقله الألسن النقيَّة، في اكتشافٍ علميٍ لا غنى عنه، في صرحٍ معماريٍ شاخصٍ لا تهزه ريحٌ ولا تخدش حياءه الرمال المتناثرة.
وبشكلٍ عامٍ ودقيق، فإنَّ التاريخ بمفهومه العميق وجذوره الأصيلة، لا يقف عند كونه مدوّنة نسجتها الحروف وخطتها أحبار القلم، بل هو علمٌ واسعٌ يخبرنا بحقائق علميَّة عن الأحداث التي قادت الآخرين واستوقفتهم للكتابة عنها وعن حيثياتها وما كان لها من أثر بليغ في البشريَّة.
وفي محاولاتٍ جادة أحدثتها العقول النيّرة الرافضة للخضوع لآليَّة نقل الأحداث، وجد ابن خلدون أنَّ الإنسان هو الذي يصنع التاريخ، وانتهى إلى تقرير مؤداه أنَّ التاريخ علمٌ قائمٌ بذاته، له أساليبه الخاصة في البحث عن العوامل التي سيطرت، أو فرضت أحكامها على سيرهِ ومجرياته، (بحسب محرك البحث غوغل).
وهذا بالتالي يقودنا الى أنَّ (الأحداث) هي من تصنع التاريخ وبالتالي فإنَّ مسؤوليَّة تدوينها ونقلها بأمانة الى الأجيال المتعاقبة، تعدُّ مسؤوليَّة كبيرة جداً، من المهم أنْ يُراعى فيها الصدق والأمانة والوفاء لمن أعطى وترك بصمة في دائرة حياته الواسعة التي عاشها.
ولا تخلو المسألة من المتطفلين على الواقع، ممَّن يسعون بجهدٍ كبيرٍ الى تغييره وتشتيت الأنظار عن حقائقه، وأقصد (الواقع)، ومن كان له الأثر المهم والكبير في عالم الطب والصناعة والفن والثقافة والقانون وباقي الأقسام الثقافيَّة العلميَّة والإنسانيَّة، هؤلاء الذين يعبثون في المنجز الثر للأشخاص، هم من أصاب التاريخ بلوثة النسيان، لأنهم يجتهدون بإزالة الآثار الدفينة وما تحقق من نتائج مهمَّة في علم الإنسانيَّة وأحداثها.
وفي الأخير، ولأنَّني أخوض هذا العالم الزمني في مقالي هذا، كان لا بُدَّ لي أنْ أنوه ووفق المصادر المعتمدة، الى أنَّ التاريخ كان في حضارات مصر القديمة وبلاد الرافدين، وقد تأسس لأول مرة في القرن الخامس قبل الميلاد مع كتاب تاريخ هيرودوت، وجاء التاريخ الإسلامي على يد المؤرخين المسلمين، أما في العالم الغربي فقد تطور على أيدي شخصيات مثل فولتير، وديفيد هيوم، وغيرهم من الذين وضعوا أساسات فن التأريخ في صيغته الحديثة.