أحمد طه حاجو
يُعَد النص المسرحي "الأساس الأول" الذي يُشيّد عليه العرض، وعليه ينبغي أن يحتوي على قدرٍ عالٍ من الثراء القيمي، بالإضافة إلى المغايرة في الطرح والمعالجة والرؤية المتفرّدة، ليحقق جذباً إلى القارئ أولاً، وإلى هذا المخرج أو ذاك. ومن ثمّ تتم عملية التبني ومن ثمّ الشروع في عملية الإخراج، كما أنّ النص المسرحي ينبغي أن يحتوي على عنصر مهم ألا وهو الجدّة، كي لا يقع في فخ "التكرار"، وهذا ما وجدته في النص المسرحي "أدبْ سِزْ".
إنَّ النص المسرحي "أدب سز" للكاتب علاء العبادي من النصوص الجاذبة للقارئ والمخرج في آنٍ واحد، لما يحتويه هذا النص من عناصر. فالفكرة العامة هي: شخصيتان نسائيتان "المرأة الأولى، المرأة الثانية" جالستان في صالة ويجري بينهما حوار عن مشروع تطرحه المرأة الأولى وهو رغبتها في تأسيس معهد لمكافحة الدعارة، وتدعو للطهارة، وسرعان ما نكتشف أن هذه المرأة مصابة بـ "ألزهايمر"، وأن المرأة الثانية صديقتها وتأتي لجلب الدواء لها، وتستمر الحواريَّة بينهما حتى نكتشف أنَّ المرأة الأولى هي امرأة منحرفة السلوك وحاولت أن تستدرج المرأة الثانية للبغاء لكنّها فشلت، والخاتمة تكون مفتوحة.
إنَّ هذا النص بفكرته البسيطة يفتح أبواب التأويل عبر ما يحتويه من رموز، فالفكرة العامة للنص هي مشروع لمكافحة الدعارة، وهذا أنموذج للعديد من المشاريع التي يعج بها المجتمع في وقتنا الحاضر وتحت مسمّيات عديدة، غالبها يحمل أسماء رنانة، كما نرى في أحد الحوارات (المرأة الثانية: بعد أن أصبحت خربةً، متهالكة، لم يطرق بابَك المخلوعِ أحدٌ، وبفعلِ أفعالكِ المشينةَ قد تخلى عنكِ أهلكِ لم يكن أحدٌ إلى جواركِ) فالنص يحمل إشارة واضحة واخزة للوعي الجمعي بضرورة التيقظ وعدم التصديق بكل ما يعلن عنه تحت المسمّيات الرنانة، كما أن أصحاب تلك المشاريع يحاولون التغطية على تاريخهم المحمّل بالعار كما تفعل المرأة الأولى في النص.
إنَّ استخدام مرض "ألزهايمر" حقق نوعاً من الحيوية للنص، لأنَّ بوجود هذا الاشتغال يجعل القارئ أو المتفرّج للمسرحيَّة يتساءل ويعيد التفكير بدقة لمجريات الحوار، مما يضيف التغريب للنص، والابتعاد عن المجريات الطبيعيَّة لتسلسل الحدث المسرحي، لا سيما أنّ المكان واحد، فكان لا بدَّ من وجود حركة ما في طبيعة الحدث لتغير الفعل، وهنا الفعل كان على مستوى الوعي وليس الفعل المسرحي أو الحركي.
إنَّ اختيار موضوع "الدعارة" قد يثير العديد من الأسئلة، مثلاً هل الدعارة والعهر المقصود على المستوى الجسدي؟ أم الفكري؟ وكم من النوعين موجود في مجتمعنا العراقي لأنَّ الكاتب ابن بيئته، ومن المؤكد أنّه يناقش هموم مجتمعه؟، وكم من النتائج السلبيَّة المتحققة في مجتمعنا بسبب طغيان العهر عبر ما نشاهده من فضائح لجيل بمستويات متعددة حتى على مستوى عالٍ من الشخصيات، لكن بالمقابل كم من المواقف العاهرة التي هي أشد من عهر الجسد تمارس يوميّاً في واقعنا العراقي والعربي؟.
إنَّ اختيار عنوان مكافحة "العاهرات" لمشروع "المرأة الأولى" وإن كانت "عاهرة" فهو يعد استفزازا واضحا وتحريضا ودعوة بضرورة التحرك، لأنَّ الاختيارات المستفزة هي عنصر مباشر وأساسي في التحريض والتغيير للسائد، فالجميع يدعو للإصلاح ومكافحة الفساد، وهو موغل بالفساد والعهر الجسدي والروحي والفكري.
الإصلاح: قد يتحمّل الكاتب المسرحي هماً مضاعفاً لما يحمله الفرد الاعتيادي، إلّا أنَّ التقنيات المسرحيَّة قد تفرض عليه نهجاً ما لتحقيق رسالته المسرحية ورسالته الشخصية، ففي هذا النص المسرحي للكاتب علي العبادي نرى أنّه يشير إلى الأخطاء والسلبيات برمزيّة على وفق استفزازات واضحة، وتلك النهاية مفتوحة، إذ أنه تركها للجمهور، كما نراه في الحوار التالي: (المرأة الثانية: بعض الفضائحِ لا تغطيها المشاريعُ العملاقة، كيف الحال بمشروعكِ المصابُ بالزهايمر، لا تدخلي في المشاريع التي تكونُ أكبرَ من مقاسكِ، وإن كانت فكرتُها جميلة وتدرُّ أموالاً وفيرةً، لأن الأردية الفضفاضةَ تكشف عن تقزمِ أصحابها، أتشربين الدواءَ أم أغادر؟) وهنا نرى أن النقد واضحاً لمن يعلن عن مشاريع مزيفة عبر إعلانات مؤتمرات صحفيَّة رنانة والنتيجة هي أعمال وهميَّة أو تخفي خلفها نوايا مغايرة لما اعلن عنه، وهنا عساه يقول إنّكم مفضوحون، فهل تغيرون نهجكم أم ستستمرون؟
فالكاتب المسرحي ليس بالضرورة أن يضع التحليل والعلاجات للأمراض الاجتماعية داخل نصه، ومن ثمَّ يقع في فخ المباشرة المقيتة، من الممكن فقط أن يشير اليها بطريقته، فالإشارة إلى المشكلات عادةً ما يكون تأثيرها أكبر لدى المتلقي.