د. علي المرهج
اهم ميزة في القراءة أنها تجعلك تعرف أنك جرم صغير لا حول لك ولا قوة، وكل ما تفعله هو السعي للاستزادة من علوم الآخرين، وما عندك لا يساوي شيئًا أمام ما يُقدمه كبار المفكرين والكتاب، لذلك القراءة تعلمنا أننا ما زلنا نجهل الكثير، وما عندنا نزر يسير من معرفة تحتاج لزمن طويل وصبر
جميل..
من يقرأ كثيرًا يعرف مقدار جهله، ومن لا يقرأ قد تجده مغترًا يمشي في الأرض مرحًا.
القراءة حالها كحال كثير من الفنون والصنائع، فهي فن لوحدها، فليس كل من يعرف القراءة والكتابة باستطاعته ان يقرأ ما يشاء، لأن المقصود بالقراءة هنا ليس قراءة كتاب ما من دون معرفة بمقتضيات قراءته واقترابه من اهتماماتنا في المعرفة وفي الحياة..
لكل من يجيد القراءة الحق في أن يقرأ كل شيء، ولكن هكذا قراءة غير ممنهجة سمها (القراءة العشوائية) المتخبطة قد توقع القارئ في مطبات محرجة لا يُحسد
عليها..
ما نشير إليه هي (القراءة المنتجة)، التي تُضيف للقارئ معلومة في مجال تخصصه أو في مجال آخر مواز له، فمن غير المقبول لنا أن نقرأ كل شيء، لأن هناك مؤلفات تهم المختص في علم ما، وقد نحتاج لها نحن لا للخوض فيها، بل بقدر خدمتها لمجال اهتمامنا الثقافي والعلمي
والفكري.
لطالما اتصل بي بعض ممن يرغبون القراءة في الفلسفة وكأنني أمتلك وصفة جاهزة أصفها لهم كي يتمكنوا من قراءتها، وأتفاعل معهم وأجيبهم على قدر ما أظنه يخدمهم، ولكن الذي أستغربه أن الكثير منهم يظن أن بإمكانه قراءة كتب الفلسفة، من دون تعلم قواعدها على يدي أساتذة مختصين!.
وهي أي الفلسفة حالها كحال كل العلوم تحتاج إلى مرجعيات وفهم مداخلها ومصطلحاتها بعد صبر وجلد لا يختلف عن صبر من يروم تعلم أحد العلوم الطبيعية والرياضية، لا سيما إن علم كثير منهم أن الفلسفة تُسمى (ام العلوم)، وهي التي خرج من ظهرانيها علوم مثل الفيزياء والرياضيات والأحياء وعلوم
المنطق.
هناك موهوبون ومبدعون بالفطرة، كأن يكونوا شعراءً أو فنانين في كل تمظهرات الفن، ولكن هذا لا يجعلهم في المقدمة إن لم يُضيفوا لموهبتهم الشغف بالقراءة في المجال الذي هم فيه مبدعون أو موهوبون، ومعرفة التجارب الإبداعية عند السابقين والمعاصرين.
أن تعرف ماذا تقرأ وكيف تقرأ ولماذا تقرأ هذه مقومات تجعلك تعرف اختيار الكتاب الذي ترغب في قراءته، وحينما تُتقن ما ذكرته أن هناك ميزة في القراءة، تخدمك أنت أولًا لمعرفة ذاتك ومقدار جهلك، وتخدمك في معرفة العالم المحيط بك
أكثر.
يمكن لي تشبيه القراءة بممارسة الرياضة، فهي كما الرياضة تمنح الجسد قدرة على تجديد صحة العضلات وخلايا الجسم، تجد في القراءة ما يمنح الذهن مهارة في تجديد الوعي وتنميته وتنشيط خلايا الدماغ، لتكون أكثر تركيزًا
وانتباهًا.
قد لا أتفق مع مدربي التنمية البشرية في تأكيدهم على أن القراءة تُقلل التوتر وتهدئ الأعصاب، بل ربما يحدث عكس ذلك لأنها تُزيد التركيز والانتباه، وهذان بالضرورة يستدعيان التوتر والانفعال، ولذلك لا تجد كاتبًا من المعروفين بكثرة القراءة مستقرًا وهادئا في حياته اليومية، لأنه يُشكل حتى على حدث يبدو طبيعيًا بالنسبة للناس العاديين.
كلما كانت القراءة بهدف تطوير التخصص العلمي كانت القراءة منتجة تخدم صاحبها وتخدم المتعاملين معه بوصفه مختصًا، وهي قراءة محدودة تُقدم خدمة مجتمعية، ولكنها لا تخلق مثقفًا بقدر ما تُنتج لنا حرفيًا كالطبيب المختص في مجاله، أو المهندس أو أي تقني في مجال ما، فهو يخدم نفسه ويخدم مجتمعه في مجاله.
القراءة المنتجة هي حينما تجد هذا الطبيب وذاك المهندس وكذلك الاديب والفنان لا يشغلهم فقط الإبداع في تخصصهم، بقدر ما يشغل فهم القيمة الجمالية والأخلاقية، التي تدعوهم للاستمرار في القراءة من أجل خلق مجتمع تسوده قيم الخير والعدل.
لماذا نقرأ؟ ربما يكون الجواب هو أنني أقرأ للمتعة، وهذا يحصل عند الكثير من الذين يعشقون القراءة، ولكن بتحصيل الحاصل أن من يقرأ يفهم الكثير من الأمور، التي لم يكن يعرفها إن كان لا يقرأ، ولكن في الوقت نفسه القراءة للمتعة لوحدها لا تكفي، لأنك ستكون كالوعاء الذي يُصب فيه ما يرغب الطباخون في صبه، وهذا يجعلك إناءً ينضح ما فيه، لا دور لك ولا فاعلية.
ينبغي أن تكون أنت من يعرف قيمة الطعام (الكتاب المقروء) وأهميته، وتجعل من نفسك طاهيًا وطباخًا يُجيد الطهي والطبخ في قدور مصنوعة من معادن وأصناف شتى، ولنقل إنها الكتب التي تقرأ، ولكنك طاه ذكي تعرف أن القراءة الإتباعبة لا تجعلك شخصًا فاعلًا، وستكون رقمًا على الشمال.
لأعيد التذكير لكم بقول (فاليري) : «الذئب مجموعة خراف مهضومة»، وهذه هي مقاصد «القراءة المُنتجة».