واقع حال

ثقافة شعبية 2024/08/29
...

كاظم غيلان

قبل أكثر من عامين، وأنا أهم بدخول شارع المتنبي، في واحدة من صباحات جمعته دفعتني الرغبة بأن أتوقف عند عربة صغيرة محملة بالكتب، بينما صاحبها ينادي بعلو صوته:
- كتاب بألف.. ثنين بألفين
وقعت نظراتي على مجموعة شاعر كبير- بالمعنى الذي تستحقه الأهمية، فضلاً عن كونه مثقفاً كبيراً- فسارعت لشرائها، وما إن فتحتها حتى وجدت إهداءً ثبته لمثقف آخر غيبه نظام البعث أواخر السبعينيات .
شعرت بأسى كبير، وراحت الأسئلة والظنون تنتابني:
- من الذي سرب هذه المكتبة والتي بكل تأكيد احتوت على العديد من نفائس الكتب؟.
وأخيراً وجدت إجابةً واحدةً لاغير : أنه واقع حال .
قبل أكثر من عام توقف بث أشهر إذاعات العالم ( بي بي سي) بعد عمر ناهز الـ (86) عاماً، واختفت نبرة مذيعها : هنا لندن، ومهما قيل من أسباب لكنه كذلك : واقع حال .
احتجبت قبل أعوام واحدة من أبرز صحف لبنان مهنية، إنها جريدة (السفير) وكان آخر مانشيت يتصدر صفحتها الأولى يشبه وداعاً ممزوجاً بالحزن: (لبنان بلا سفير).
في العراق ومع الأيام الأولى لسقوط النظام الأحادي سياسة وإعلاماً، كانت هبة إصدار الصحف غاية في فوضى (الحرية) إذ قاربت الـ (500) صحيفة ومجلة معظمها لا يرتقي لمستوى  نشرة جدارية، فأخذت بالتراجع ولم يتبق منها سوى ما يعادل أصابع اليد، ولربما تحتجب غداً أو بعده فهو واقع حال .
ما يطرأ من تطورات في عالم اليوم يلغي تلك الثوابت التي أوهمنا بها أنفسنا، وما المكابرة والإصرار الذي يلازمنا إلا هوس و أضغاث أحلام، العالم يسير باتجاه وأحلامنا باتجاه معاكس ستصطدم بجدار وسيصرخ بنا:
أما قلت لكم إنه : واقع حال .
عربة الكتب التي أشرت إليها بداية لها مثيلات كثر وبعضها ينادي أصحابها : كتاب بربع ..أربعة بألف .
خبرني الصديق الشاعر الراحل عريان السيد خلف أن مردودات مجموعته الشعرية (الكمر والديرة) التي صدرت في سبعينيات القرن الماضي أعانته على معيشة أسرته لفترة طويلة .
طيب.. ما الذي يبتغيه الشاعر عامياً كان أم فصيحاً من إصداره الشعري اليوم؟
سيقوم بإهداء نسخه لأصدقاء أهدوا له إصداراتهم، ويهدي البعض الآخر لمن يعتقدهم نقاداً وإعلاميين يسدون له خدمة الإعلان والترويج وهذا من حقه جداً .
آخرون لربما تحتم عليهم شروط القبول لنيل عضوية اتحاد الأدباء طباعة عملين كحد أدنى في قبول المتقدم للعضوية .
الكتاب متاح للجميع في سوقه، رواية كان أم شعراً أم نقداً أم سياسة، لكنه في تراجع على مستوى الشراء كما أرى، ولا غرابة في أن يختفي كما الـ ( بي بي سي والسفير )، فذلك واقع حال ربما مستقبلاً. فما جدوى الإصدار إذن؟.
في شعر العامية ربما لم يزل ثمة إقبال على شراء الإصدارات لاسيما القديمة منها، كما تأكدت من سوق الكتاب، ولربما أيضاً تختفي فسوق هذه القصيدة الرائجة أصبحت حصة للعديد من البرامج الإذاعية والفضائيات ولـ (الهابط) الأمي المتخلف منها  الحصة الأوفر.