علي صقر
في الستينيات من القرن الماضي، ومع موجة الانتقال من الريف إلى المدينة، أي من السكن داخل بيوت طينيَّة إلى اسمنتيَّة مبنيَّة من الحجارة الرمليَّة، كانت أغلب الأبنية مؤلفة من طابقٍ واحدٍ وقريبة لبعضها البعض، وكأننا بقرية متمدّنة. كان متنفس أهالينا الوحيد هو الجلوس أمام المنازل أو على الأسطح، حيث يشربون المته والزهورات وأشهرها "الزوفا"، ويلعبون ورق الشّدة والمنقلة، وفي المساء يعزفون على الربابة وينشدون قصائد للمتصوفة وأهمهم المكزون السنجاري. أما نحن الأطفال فكنا نلعب ألعابنا، مثل "الشّكة" حيث الشوارع الرمليَّة غير المعبدة، وفي أوقاتٍ أخرى كنَّا نلعب الكرة المصنوعة من الأقمشة البالية، ولأنَّ أهالينا كانوا يمنعوننا من اللعب أمامهم، كانت الأسطح ملاذنا الآمن.
فكانت بنات الحارة يرسمن على الأسطح بالطباشير مربعاتٍ ويلعبن "العفريتة" كما كنَّا نلعب سويَّة "فتيحوا الاستثماريَّة.. فتحي ياردة سكري يا وردة"، وتلك اللعبة لم نقدر على لعبها على الأسطح، لأنها مكشوفة، في حين كنا نلعبها بمتعة بالريف، ونختبئ داخل التنور أو خلف شجرة أو صخرة، وأيضاً كنَّا نحن الصغار نأتي بماسورة مياه معدنيَّة بطول متر، وعلب النيدو الفارغة ونصبّها اسمنتاً، وندك الماسورة بين العلبتين لتكون سقالات الأثقال، وكان الكبار يأتون بعلب "السمنة" الكبيرة الحجم وينمّون عضلاتهم بالتدريب برفع الأثقال. يحدث كل ذلك على الأسطح، فضلاً عن أول سيارة صنعناها وهي "عبارة عن مربع خشبي وعليها أربعة دواليب من ريمونات السيارات المستهلكة، نثبتها أسفل الخشبة ولنطورها بثلاثة رومونات، رومونان من الخلف ورومون من الأمام ونوصل الرومون الأمامي بخشبة نافرة قليلاً عن الخشبة الأساسيَّة" ويجلس عليها أحدنا وندفعه للأمام فيحركها بقدمه ليغير اتجاهها كيفما شاء.
بقيت أسطحنا خالية إلا من ألعابنا إلى أنْ جاء يوم وبنى شقيقي الأكبر خيمة من القصب، لأنَّ القصب يتوافر بالمدن الساحليَّة بشكلٍ مجاني. كان يسهر تحتها هو ورفاقه يلعبون الشدة. وفي أوقات المدرسة، يدرسون في ظلها الذي يقيهم حر الجو والرطوبة العالية.
ضاقت مساحة السطح قليلاً بعد أنْ بنى ابن جيرانا خيمة من التوتياء المعدني على سطحه المقابل والقريب جداً لسطحنا، وقام بتربية الحمام فيها. "كشيش الحمام". وبدأت الأسطح تضيقُ وتضيقُ إلى أنْ قامت البلديَّة بقطع المياه لساعاتٍ كل يوم فبنى الأهالي خزانات للمياه من الحجارة والاسمنت. وهكذا ضاقت ملاعبنا ومتنفسنا. ومع انتشار التلفزيون، كان لا بُدّ "للأنتينات" لواقط الإشارة، أنْ تنتشرَ على الأسطح. وأذكر وقتها، أنَّ محطة "Sigma" القبرصيَّة الأرضيَّة، كانت تبث أفلاماً جريئة وكنا نوجه "الأنتين" نحو البحر.. وكي يكون البث واضحاً، كنَّا نضعُ في مقدمة "الانتين" صينيَّة ألمنيوم كبيرة الحجم. كانت مهمتي تحريك "الأنتين"، فشاهدت جاري على السطح وزوجته من على الشرفة تناديه "إي لسه حركه عاليمين شوي.. لا لا حركته كتير.. رجّعه شوي.. إي لسه شوي.. إي إي هيك منيح ما بقا تحركه..".
في التسعينيات من القرن الماضي، ومع انتشار ظاهرة "الدش"، بدأت الأسطح تضيق أكثر بسبب الصحون اللاقطة التي تبدو كأنَّها عيونٌ تراقبُ أولادَ الجيران عندما كانوا يلتقون ويتغازلون على الأسطح. وفي الآونة الأخيرة انتشرت الطاقة الشمسيَّة لتسخين المياه والتي تأخذ حجماً أكبر بمرتين من "الدشّات". ولم تنته الحال بها الآن، إذ بدأ الناس بتركيب الطاقة الشمسيَّة التي تولد الكهرباء لتأخذ حجماً أكبر من "الدشات" والطاقة الحراريَّة ولتضيق تلك الأسطح أكثر وأكثر.. ولم يعد هناك مجالٌ لنشر الغسيل والسهرات المعروفة عن جيل الثمانينيات، وحُرمنا أوقات الحرارة المرتفعة من النوم على الأسطح بحثاً عن البرودة، بجانب "قشور التين والبندورة والحنطة وتنك النيدو والسمنة والتي زرع بداخلها الحبق والفجل والنعناع". كما اختفت الأغنية الشهيرة: "والله لنصب مرجوحه/ بين سطوحي وسطوحها/ خلي يقولوا حرامي/ روحي متعلقا بروحها".
ومع الفورة العمرانيَّة تمَّ تهديم خيمة التوتياء المخصصة لتربية الحمام ونقل الخزانات والطاقة الشمسيَّة الى فوق السطح المبنى جديداً، فننقل ذكرياتنا وألعابنا مع الخوف من بناءٍ آخر فوق ذكرياتنا. وأكثر ما استفز ذاكرتي وأحدث بها ثقباً كبيراً عندما اشترت أمي كيس برغل مختوماً وبدلاً من أنْ تطبخه قامت بنثره على سطح بيتنا الجديد، والذي ضاق بالدشات والخزانات والطاقات الشمسيَّة ومانع الصواعق. وقالت لي بغصة: كما كنت بصغرك تقوم بحراسة حبات الحنطة من نقر العصافير لهم، عليك فعل ذلك الآن وكل آن.
الآن، أتذكرها عندما كانت تسلق الحنطة وتقوم بتشميسها على السطح، إذ نقوم بشطف السطح مع غسيل أقدامنا الصغيرة وكانت مهمتي كشّ العصافير.. ثم نصبوا الفزاعة ومن بعدها أصبحنا نسيّج السطح بشرائط الكاسيت التي تلمع من الشمس وبيرقها تفزع العصافير. والأجمل يهب الهواء ويلفح الشرائط وتصدر موسيقى مدهشه فتهرب العصافير.. أين أنتِ يا أمي؟ العصافير ماتت أو لم تعد تؤوب وما عادت الأسطح تتسع لأحد.. وشرائط الكاسيت اختفت هي وألحانها.. وصار بكل بيت فزاعة، ومن بعيد لمحت صبية تنشر على سطحها "زغاليل" العصافير وتعلمهم الطيران من سطحٍ لسطح، وكأنَّ الإسباني خوان رامون خيمينيز كتب قصيدته "لن أعود" على ركام سطح بيتنا: "لن أعود. والليل/ دافئ وهادئ/ سينام العالم للأشعة/ من قمرها الوحيد/ لن يكون جسدي هناك/ ومن خلال النافذة المفتوحة/ سيأتي نسيم بارد/ يسأل عن روحي./ لا أعرف ما إذا كان هناك أحد ينتظرني/ من غيابي المزدوج الطويل/ أو من يقبل ذاكرتي/ بين المداعبات والدموع/ لكن ستكون هناك نجوم وزهور/ وتتنهدات وآمال/ والحب في السبل/ في ظل الفروع/ وسيصدر صوت البيانو/ كما في هذه الليلة الهادئة/ ولن يكون هناك من يسمع مدروس
على نافذتي".