السياسة الخارجيَّة الإيرانيَّة ومقاربات الواقعيَّة

بانوراما 2024/09/05
...

  جواد علي كسار

إذا أخذنا بالمعيار الخطي الكمي غير العضوي سنجد أن لوزارة الخارجية في إيران، حيّزاً من العراقة التأريخية امتد زمنياً إلى نحو قرنين، من أول أوان تأسيسها في العهد القاجاري إلى الوقت الحاضر. وفي عهد الجمهورية الإسلامية شهدت مجموعة من التحوّلات وهي تنتقل من كريم سنجابي أول وزير، إلى محطات قصيرة نسبياً مع إبراهيم يزدي وأبو الحسن بني صدر وصادق قطب زادة ومير حسين موسوي، قبل أن تستقر مع عهد وزيرها العتيد علي أكبر ولايتي، وقد سجّل أعلى حضور على رأسها من بين أسلافه وأخلافه جميعاً دام (16) عاماً متواصلة.


ما بعد ولايتي

على خطّ الأخلاف بعد ولايتي يوثق لنا سجّل الوزارة أسماء كمال خرازي على عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، ثمّ منوجهر متقي الذي طرده رئيسه أحمدي نجاد وهو خارج إيران يحضر لقاء قمة في أفريقيا، ضمن حادثة دراماتيكية مشهورة لا تخلو من الثأر أو الغضب، ليأتي بعده الوزير المتميّز كربلائي المولد بغدادي النشأة بيروتي الدراسة قزويني الأصل، علي أكبر صالحي. فمع أنَّ هذا الوزير لم يمكث في الوزارة طويلاً، إلا أنه أسس في عهده ومن خلال شخصه وجهده الذاتي لمنعطف حاسم في السياسة الخارجية، عندما أقنع المرشد شخصياً بأهمية الحوار المباشر مع الولايات المتحدة الأميركية، وحصل على موافقته في ذلك.

لقد اقتنص خلف صالحي في الخارجية الوزير محمد جواد ظريف بمهارة، لحظة صالحي في الحوار المباشر وحوّلها إلى قاعدة جديدة للعلاقة مع أميركا، حين سجّل على مرّ هذه العلاقة أكثر من (50) لقاءً مع وزير خارجية أميركا وقتها جون كيري، انتهت بالاتفاق النووي عام 2015م، مروراً قبل ذلك بالمهاتفة التأريخية بين الرئيس الإيراني حسن روحاني والأميركي باراك أوباما، بعد أن فشلت مساعي عقد قمة مباشرة بين الطرفين في نيويورك، ضمن مشروع مفاوضات (5 + 1).

مع صعود الوزير الجديد إلى قمة الوزارة، يرى البعض في ذلك مؤشراً كبيراً لكي تستأنف السياسة الخارجية الإيرانية مسارها في الواقعية السياسية، مع أحد أركان هذه المدرسة وخطّ ظريف الوزير الأكاديمي عباس عراقچي، في شبه قطيعة دقيقة ومغلّفة مع الوزير السابق حسين أمير عبد اللهيان، الذي كان يحبّ الآخرون أن يمدحوه بأنه وزير «محور المقاومة» أكثر مما هو وزير خارجية إيران.

باختزال شديد؛ هذه فصول قصة وزراء خارجية إيران ما بعد الثورة الإسلامية، وسؤال المقال تحديداً، هو: هل يمكن أن تشهد السياسة الخارجية الإيرانية تغييراً في المنطقة والعالم، مع عباس عراقچي وعلى عهده، وما هو حجم هذا التغيير؟


مناهج وأربعة نماذج

بكثافةٍ شديدة، ليس التحليل السياسي كتلة لفظية متنقلة أو شحنة اصطلاحية تُستعمل في جميع الحوادث ومع كلّ المناسبات، بل هو عمل اجتهادي دؤوب يستند إلى قواعد محدّدة، ليبتعد من هذه الزاوية عن اليقين والأحكام القطعية، ولتكون هناك مسافة تميّزه عن لغة التخمينات المجرّدة والرجم بالغيب.

على أساس هذه القاعدة وانطلاقاً منها تضع بين أيدينا الخبرة الإيرانية نفسها، نماذج متعدّدة في تقويم ومراجعة السياسة الخارجية الإيرانية، وإمكان التنبؤ بمتغيراتها، سنمرّ من بينها على أربعة، هي باختصار:

1ـ الأنموذج الذي يقوم على أساس رصد التعارض بين الأهداف العريضة الكبرى والمثل العليا، والإمكانيات المحدودة، ما يؤدّي غالباً إلى نتائج متواضعة على الأرض، بل إلى الفشل والانكسار والإحباط. وهذا الاتجاه تُعزى تأسيساته المعاصرة إلى الأستاذ الإيراني روح الله رمضاني (1927 - 2016م) في النماذج الدراسية التي قدّمها عن السياسة الخارجية الإيرانية إبّان حقبها الثلاث؛ السلطانية، والبهلوية والجمهورية الإسلامية.

من أهمّ المعطيات المنهجية والنظرية لمدرسة رمضاني أنه ذهب إلى «إمكان» السياسة الخارجية للدول النامية، وأنها ليست حكراً على القطبين إبّان الحرب الباردة، معها بعض الدول القوية، تماماً كما ذهبت إلى ذلك رموز أكاديمية وفكرية كبيرة في العالم العربي والإسلامي، أمثال حامد ربيع وحسن صعب وملحم قربان وسمير أمين وبرهان غليون ومحمود أمين العالم، ويتميّز في هذا المنحى على نحوٍ خاص أحمد داود أوغلو من تركيا.


الستراتيجية الرابعة

2ـ يقدّم الباحث والأكاديمي في مجال العلاقات الدولية رحمن قهرمان پور أربعة نماذج للسياسة الخارجية، الأول القائم على الوطنية الإيرانية القديمة ومنحاها العنصري المتكبّر على عهد النظام البهلوي، والثاني أنموذج تصدير الثورة، والثالث التمحور حول الاقتصاد وأولوية الاقتصاد في عالم ما بعد الحرب الباردة، وأخيراً ما يطلق عليه بـ»الأنموذج المركب» هذا الأنموذج الذي تعطل أو تلكأ مع انطلاق بواكير أزمة الملف النووي عام 2002م، ولم يزل دون حلّ. يزوّدنا قهرمان پور في كتاباته المتخصّصة لاسيّما عن النووي والسياسة الخارجية، والأهمّ منه كتابه الآخر عن عنصر «الهوية» ودورها في بناء السياسة الخارجية لإيران والشرق الأوسط، كما في بقية دراساته ومقالاته؛ يزوّدنا بمجموعة تصوّرات تصب بمنحى ما يسميه بضرورة انطلاق «الستراتيجية الرابعة» للسياسة الخارجية الإيرانية لاسيّما إزاء المنطقة، تتجاوز عقبات النماذج السابقة، تتصالح فيها الهوية الطاغية أو الجامحة بحسب وصفه مع الهوية الوطنية، في نطاق احترام الدولة الوطنية والهويات السائدة (يُلاحظ خاتمة كتابه: الهوية والسياسة الخارجية في إيران والشرق الأوسط، ص: 459 فما بعد).


المتغيرات الخمسة

3ـ أفضل الدراسات ما يجمع في منهجيته بين الأطر النظرية والمادّة أو الوقائع الدراسية على صعيد واحد. وهذا ما قدّمه لنا كتاب: «سياسة إيران الخارجية: 1979 - 2021 رؤية من الداخل». بشأن الإطار النظري قدّم المؤلفان علي باقري دولت آبادي ومحسن شفيعي سيف آبادي، رؤية مكوّنة من خمسة متغيّرات أطلّا من خلالها على السياسة الخارجية؛ هذه المتغيّرات، هي المتغيّر الفردي، متغيّر الدور، المتغيّر الوطني الاجتماعي، متغيّر النظام البيروقراطي، متغيّر النظام الدولي.

المهمّ في هذه الدراسة الممتدّة على مئات الصفحات (502 صفحة) أنها قدّمت لنا جرداً تفصيلياً لعمل هذه المتغيّرات الخمسة، بدءاً من الحكومة المؤقتة على عهد مهدي بازرگان، إلى حكومة محمد علي رجائي، فالسيد علي خامنئي يوم كان رئيساً، ومن بعده الشيخ هاشمي رفسنجاني، فالرئيس محمد خاتمي، ومن بعده الرئيس محمود أحمدي نجاد وأخيراً الرئيس حسن روحاني.

تقدّم هذه الدراسة تحليلها للسياسة الخارجية عبر المتغيّرات الخمسة، ومن ثمّ فمن يريد معرفة حجم التحوّلات المرتقبة في سياسة إيران الخارجية، على عهد الرئيس الحالي مسعود پزشكيان ووزير خارجيته عباس عراقچي، لابدّ أن يستعين بتلك المتغيّرات في قراءة مسارات المستقبل. دعونا نعطِ مثالاً لعمل هذه المتغيّرات بين الرئيسين نجاد وروحاني؛ ففي عهد نجاد طغت الفردية (المتغيّر الأول) وتصاعد دور الرئيس (المتغيّر الثاني) فقلّل ذلك كثيراً من دور البيروقراطية (المتغيّر الرابع) ودفع الجمهور في الداخل إلى موجة من الثورية الطافية (المتغيّر الثالث) والمزيد من التوتر والأزمات مع العالم (المتغّير الخامس) (المصدر، ص: 406 فما بعد).

أما على عهد روحاني فقد تقدّم متغيّر «الفرد» و»النظام العالمي» و»المجتمع» على متغيّرَي «الدور» و»البيروقراطية» لكن باتجاه تقاطع كثيراً مع أحمدي نجاد، عندما جنحت السياسة الخارجية الإيرانية إلى المزيد من الاعتدال والهدوء، والبُعد عن التهييج والإثارة التي اتسمت بها على عهد نجاد (المصدر، ص: 457 فما بعد).


التحليل الإدراكي

4ـ الأنموذج الأخير الذي نقف عنده بوصفه إطاراً منهجياً ونظرياً لفهم السياسة الخارجية الإيرانية وتحليلها، وتوقع تحوّلاتها ومساراتها المستقبلية، هو الأنموذج الذي قدّمه ظريف عبر ما أسماه بـ»التحليل الإدراكي». ففي كتابه الأخير الذي صدر بعنوان: «منتهى التحمّل أو أقصى حدود الصبر: ذكريات ثماني سنوات في الوزارة» وعدّه بمنزلة «وصيته السياسية» (ص: 461) ذكر بوضوح أنَّ السياسة الخارجية لبلده تعاني من «إشكالية معرفية» وأنَّ الخلل الإدراكي هو الجذر العميق وراء تعثّر هذه السياسة، من دون أن يتكتّم على أنه أخذ هذا المنحى من الأكاديمي الإيراني روح الله رمضاني، بيدَ أنه أدخل عليه تطويرات كبيرة.

لقد ساقته منهجية التحليل الإدراكي إلى متابعة الخلل الموجود في بُنية وزارة الخارجية، مع بقية الأجهزة النافذة وفي طليعتها الأجهزة العسكرية والأمنية والإعلامية، ليسجّل نقدياً أنَّ صعود العسكرة وغلبة المعالجة الأمنية يتقاطع بالكامل مع الرؤية الدستورية، القائمة على أساس التوازن بين خمسة أعمدة للأمن القومي، ومن ثمّ ينبغي أن ينهض المجلس الأعلى للأمن القومي بدوره في إعادة هذا التوازن، خاصة بين العسكريين والمدنيين، ووزارة الخارجية وبقية الأجهزة والمؤسّسات الموازية وغير الموازية، وكذلك لتجاوز ثنائيات الثورية والدبلوماسية أو ما يسميها هو ثنائية «الميدان» (كناية عن العسكر) والدبلوماسية.


الواقعية السياسية

حقيقة الأمر أنَّ الكلام عن الوزير الجديد عباس عراقچي، هو كلام بالعمق عن اتجاه أو مدرسة الواقعية السياسية، لكن مع قيد مهم مؤدّاه أنَّ هذه الواقعية لا تعبّر عن اتجاه نظري أو أكاديمي محض في السياسة، بل هي خليط يجمع على أرض الواقع كتلة صلدة من السياسيين الكبار ربما كان على رأسهم جميعاً هاشمي رفسنجاني، إلى جوار منظرين ومفكرين وأكاديميين، وإعلاميين وناشطين وفاعلين اجتماعيين، لهم حضورهم في أعلى أجهزة السلطة ومؤسّسات القرار، وفي أروقة البرلمان وفي كلّ مكان.

يتجه هؤلاء بحسب أحد منظريهم محمد جواد ظريف الذي يجمع بين التخصّص الأكاديمي والممارسة الوظيفية؛ إلى إعادة التوازن في مفهوم الأمن القومي الإيراني على نحوٍ متكافئ، يحفظ للأعمدة الخمسة التي نصّ عليها الدستور حضورها المتوازن. كما يميّز هؤلاء بين الغايات والمثل العليا والأهداف الكبيرة وحجم الإمكانيات على الأرض، ويطالبون بتكييف السياسة الخارجية في ضوء ما موجود فعلاً من الإمكانيات، من دون أن يتنكروا لتلك الغايات والمثل والأهداف، إذ إنهم ليسوا حياديين إزاء المتبنيات الإيديولوجية ومنظومات القيم، بل يختارون خطواتهم في ضوء ما هو موجود فعلاً.

يذهب هؤلاء إلى رسم حدود فاصلة في السياسة الخارجية بين «الحضور» المادي العسكري المباشر المرفوض، و»النفوذ» المعنوي والقيمي المطلوب. كذلك تتسع رؤيتهم إلى سياسة خارجية غير تدخلية في الإقليم، محورها الأساسي الاقتصاد والمشاريع المشتركة، وليس المشاريع العسكرية والتدخلات الأمنية والثقافية المغلّفة بأقنعة أمنية، كما يتحدّث عن ذلك ظريف نصاً، وهو يكتب: «عندما تكون حتى نشاطاتنا الثقافية في المنطقة، ناشئة من رؤية أمنية عسكرية؛ والأكثر من ذلك أنها صادرة من منظور ردّ الفعل والإحساس بالنقص، فستكون النتيجة أنَّ بلدان المنطقة كلما كانت أصغر ازداد قلقها منا، وكلما تصاعد خوفها منا أكثر، أصبحت أقرب إلى منافسينا والمعارضين لنا» (پاياب شكيبائى، ظريف، ص: 254).


عراقچي والتحول المرتقب

أياً ما كان الإطار النظري الذي نستند إليه في فهم ومتابعة السياسة الخارجية الإيرانية، فإنَّ التحوّل قادم لا محالة، ولن يكون بسيطاً أو سهلاً أو سطحياً، فإيران مقبلة على متغيّرات تتناسب في الحدّ الأدنى مع التحوّل المفصلي الذي رافق صعود الرئيس مسعود پزشكيان نفسه، لاسيّما إذا أخذنا بنظر الاعتبار مقدّمات هذا الصعود ومآلاته وتفصيلاته، والضرورات الملحة في الداخل الإيراني خاصة في المجال الاقتصادي وتحدّيات السياسة الخارجية.

أجل، لا يمكن أن نتوقع تحوّلات حادّة (دراماتيكية) على أسلوب الصدمات، بل تأتي على نحو تدريجي لا يخدش شعور البعض في الداخل؛ وهذا برأيي هو سرّ اختيار عراقچي لمنصب وزير الخارجية (متغيّر الفرد)، ومن ورائه سرّ صعود شخصية إصلاحية هادئة إلى الرئاسة مثل پزشكيان، كما هو الحال في سرّ وجود شخصيات وسطية من حول الرئيس وفي صميم جهاز الحكم، كما هو حاصل فعلاً مع النائب الأول للرئيس محمد رضا عارف، ومساعده للشؤون الستراتيجية محمد جواد ظريف وغيرهما، إذ يتمثل المشروع برمته بإنجاز التحوّل المرتقب، لكن بشكلٍ هادئ بعيد عن الإثارة والضجيج.

أُلفت النظر إلى نقطة أساسية في شخصية عراقچي؛ أنه لم يصنّف داخلياً على أي خطّ أو تيار أو جناح سياسي، بل هو يُحسب على التكنوقراط والبيروقراطية المتخصّصة في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، يعزّز هذا المؤشر ويقوّيه أنه أصدر كتابين قبل أن يتبوأ منصبه، أحدهما نقل فيه تجربة عمله سفيراً لبلده في اليابان، والآخر وهو الأهمّ، صدر للتو يحمل عنواناً مباشراً يؤيّد ما نحن فيه؛ هو «قدرة التفاوض».