رموز الفن يغازلون الأسر البغداديَّة
يوسف المحمداوي
تصوير: نهاد العزاوي
لم يدر بخلدي أبدا أن تطأ قدماي البلاد، التي أنجبت نابليون، الذي غزا العالم تحت راية مقولته الشهيرة " لا مستحيل تحت الشمس"، ولا مستحيل أن أدخل بلاده اليوم تحت مقولتنا الاثيرة "الدهر يومان يوم لك ويوم عليك"، رغم قدومه كفاتح وقدومي كسائح، وأنا الذي كنت في زمن سلطة النظام السابق، محروما من زيارة مدن شمالنا الحبيب نتيجة حروبه وحصاراته، التي لم تجلب لنا غير الويلات، وها أنا اليوم أتسلق برج إيفل، ثم اتجه بسرعة الصاروخ بصحبة قطار فرنسي صوب حدائق قصر فرساي، لأصور نفسي مع غرفة نوم ماري انطوانيت ومكياجها، بشارع المرايا داخل تلك التحفة المعمارية الساحرة بحدائقها ونصبها ولوحاتها وقصورها، وأنا في خضم انشغال عيوني وقلبي بجمال المشاهد، لكن سؤال ابنة صديقي المغترب، منذ عقود في أوروبا أعادني إلى موقعي من الإعراب الحقيقي وسط خارطة العالم.
الهروب صوب الماضي
" عمو يوسف هل لدينا مثل هذه الأشياء في العراق؟" نعم كان لدينا فنحن أول دولة في العالم بنت الحدائق بشكل عمودي، إلا وهي الجنائن المعلقة التي تعد من عجائب الدنيا السبع في العالم، وهذه بنيت قبل الميلاد بآلاف السنين في بابل من قبل الملك البابلي نبوخذ نصر، رغم أن الدراسات الغربية الحديثة تنسبها إلى الملك الاشوري سنحاريب، الذي بناها في قصره بنينوى، "ولا أدري هل الغرب يريد من جديد بث الفتنة بين البابليين والآشوريين بشأن عائدية الجنائن، أم أن الدراسة مستندة إلى حقائق علمية لا تقبل الشك".
هربت من أسئلة ابنة صديقي بشرح مفصل عن الحدائق والمناطق السياحة الجميلة، والتي لا تعد ولا تحصى في بلادي، لكنها تعرضت بسبب الحروب والفتن التي مر بها البلاد، فضلا عن فجيعتنا الكبرى بما فعلته عصابات داعش الإرهابية بإرثنا الحضاري والجمالي بعد تدنيسها أرض الوطن، إلى أن وصلت في شرحي لها لفاتنة من فاتنات العاصمة وهي "حديقة الأمة"، لأتفنن بنقل الصورة لتلك الفتاة المهووسة في عشق بلدها، رغم ولادتها الإجبارية في المنفى الأوروبي لوالدها، واليوم بمعايشة ميدانية للحديقة أنقل للقارئ صورتها الحقيقية، وما أصبحت عليه اليوم بعد عقود من الإهمال والتجاهل المتعمد.
حديقة الملك غازي
افتتحها الملك غازي في بغداد عام 1937، مراعيا في تشييدها موقعها الاستراتيجي وسط العاصمة، وتزيد المساحة الكلية لها عن الثلاثة دونمات، وكانت ملاذا حضاريا وسياحيا للكثير من الأسر البغدادية، وذلك لقربها من المناطق البغدادية القديمة، كالبتاويين والمناطق المتواجدة في شوارع الرشيد والكفاح والنضال والجمهورية، فكان عشاء الأسرة البغدادية في الحديقة، يختلف عما هو عليه داخل بيوتهم الضيقة، كما يقول الحاج هادي أبو حسن صاحب محل لبيع المواد الغذائية في شارع الكفاح، وكان يفترش الحديقة هو وأسرته، رغم أن درجات الحرارة لم تتحسن كثيرا في ذلك اليوم، وعزا ذلك بقوله "والله جزعنا من خنكة البيت...خل نشتم هوى الله"، وبينت لنا زوجته أم حسن أنه في الزمن الماضي قاصدة زمنهم الجميل أن الكثير من الزيجات، حصلت نتيجة التعارف ما بين الأسر، التي ترتاد الحديقة مساءً، خاصة ايام الخميس والعطل الرسمية، بل إن الكثير من الأسر المتعففة يقومون حفلات الزفاف والختان في الحديقة بحسب قولها، الأسر التي حضرت للحديقة رغم قلتها بسبب الحرارة وانخفاض درجاتها قليلا، كانت تتبادل صحون الطعام في ما بينها، والاطفال تفننوا بألعابهم، وسعادتهم تملأ قلوب أهاليهم بالفرح من خلال مشاهداتنا لضحكاتهم العالية وسط المكان.
سعادة الحديقة بالفن
الداخل للحديقة سواء من جهة ساحة الطيران أو التحرير، إن كان يعرف ويعي أهمية المكان وقيمته التاريخية فنيا وتاريخيا، لا بدّ أن تتعثر دقات قلبه بالخشوع لقدسية المكان واهميته، فمن هنا افتتحها الملك وهناك جلس الزعيم، وتحت نصب الحرية تصبب عرقا الراحل جواد سليم، يشاركه الجهد الراحل الجادرجي في صب كتلته الكونكريتية الحاملة لبرونزيات نصبه العالمي، وخلفهم الراحل خالد الرحال بازميل الإبداع والتدقيق ينحت لنا تمثال الأم، وامبراطور اللون الخالد فائق حسن بقطع السيراميك يفتح أبواب الأقفاص، لطيور السلام بألوان جدارية الخلود، ما أسعدنا بالحظ ونحن نسير ما بين تلك الزقورات الفنية لو فكرنا قليلا، ما أسعد الحديقة بكم يا جواد، يا خالد، يافائق، وما اسعد الوطن بمنارات ابداعاتكم.
الأديبة والإعلامية نرمين المفتي أكدت لـ"الصباح" في حديث لها عن هذه الجوهرة البغدادية: " إن حديقة الامة، ليست حديقة وحسب، انما قلب أو وسط بغداد، التي تحيطه ( حريتان وأم) ببصمات أبرز فناني العراق، جدارية حرية الناس والحمام لفائق حسن، ونصب الحرية للكبير جواد سليم، وتمثال الأم للخالد خالد الرحال، كيف ننسى أن البطاقات البريدية كانت تحمل صورتها في خمسينيات و ستينيات القرن الماضي، وهذا ما يشعرنا بالأسى والحسرة". ومبررات ذلك كما تقول المفتي، لأن صورتها التي كانت عالقة في ذهني وأذهان من سبقوني من الأهل، كانت تمثل حديقة غنَّاء بالنافورات، وصورة الرجل الذي يرتدي الزي العربي بعباءة وغترة وعقال، وهو يجلس مع سيدة بعباءتها ايضا".
العودة للفرح
تظهر تلك الذكريات والصور، كما توضح المفتي " إن الحديقة في ذلك الزمن كانت مخصصة للأسر فقط، مشيرة إلى أنها كانت تحتوي على مقهى، والأهم من ذلك هو توفر الأمان والتعامل الانساني بين العائلات على مختلف قومياتها وأديانها، فاختلطت الضحكات والأفراح، فلا تميز بين ضحكة مسلم عن ضحكة مسيحي، حين تطرق مسامع المارة من هناك، فالسعادة هناك عراقية خالصة بحسب تعبير المفتي، لكنها بحسب الظروف التي عاشها البلد تحولت بين ليلة وضحاها إلى فندق مجاني للمشردين وحانة للمتسكعين، وبؤرة لمروجي ومتعاطي المخدرات، وخيمة للصوص والمحتالين، وووو الكثير من المشاهد، التي لا تمت لأخلاقنا بصلة، فلم تكن الحديقة التي عرفناها، فتحولت من منتجع للفرح والسلام إلى موقع خطورة، نخشى المرور من قربها، فهاجرتها العائلات، كما تهجر الطيور أوكارها، لتصبح مكبًّا للنفايات، وكنا نخشى على تلك الأعمال الفنية القيمة أن يطولها الإهمال والدمار، لكنها اليوم عادت إلى رونقها القديم، وارتدت فساتين السعادة لتعود إليها الأسر بشوق العاشق لمعشوقته، وإن كانت درجات الحرارة مرتفعة، لكن درجات الشوق لها مرتفعة أكثر، وأصبحت أكثر أمانا وفرحا، وسط لعبات وقهقات أطفالنا، ليعود قلب بغداد نابضا كما كان، وتمنت المفتي في ختام حديثها أن تعود جميع شواخص بغداد الجميلة والتي نحبها كما كانت"، ومع حديث الكبيرة بإبداعها المفتي، كنا نرى الأسر الداخلة لحديقة سنتر بغداد، وكأنها تغني مع نجاة الصغيرة من شعر نزار قباني، مع الاعتذار لتأنيث المذكر شعريا " كم قلت اني غير عائدة لها...ورجعت ما أحلى الرجوع اليها ".
قاعة " كولبنكيان "
حديقة الملك غازي، التي تحول اسمها بعد ثورة تموز 1958 إلى حديقة الأمة، بعد أن رسمت لها ملامح جديدة من الترف العمراني والابداع الفني غير المسبوق، من خلال إضافة النافورة ومصابيح الزينة وزراعة الزهور، فضلا عن الإضافة الكبيرة والقيمة من خلال نصب الحرية لجواد سليم، وتمثال الأم لخالد الرحال وجدارية السلام لفائق حسن، عن هذا المثلث الفني تحدث لـ"الصباح" الكاتب والفنان علي ابراهيم الدليمي المدير السابق لقاعة الفن الحديث المجاورة للحديقة قائلا: " (حديقة الأمة) الخالدة، التي اعتبرت دلالة معرّفة داخل العراق وخارجه، لأهمية موقعها الجغرافي في وسط بغداد، وخصوصاً عند المجتمع الفني والمعماري حينذاك، حيث سال لعاب الثري الأرمني "كولبنكيان" ببناء قاعة الفن الحديث، في العام 1962، التي لا تزال شاخصة إلى الآن مجاورة لحديقة الأمة، كذلك الحال عند المعماري رفعة الجادرجي، وهو يرفع لافتته المعمارية المتميزة، التي نحتها الكبير "جواد سليم". كذلك كل من الفنانين فائق حسن، الذي ارتأى أن ينصب جداريته السيراميكية "السلام" على مرأى أعين الناس، فضلاً عن النحات "خالد الرحال"، الذي نصب تمثاله التعبيري (الأم) في وسط مروج الحديقة ".
الدليمي الفنان والاعلامي يرى أن "هذه الشواخص المهمة الثلاثة، فضلاً عن قاعة كولبنكيان، كانت أسس مكملة ومتممة فنياً وحضارياً، لمشهد وسط بغداد، وقد أصبحت "حديقة الأمة"، في ما بعد منطلقاً، ورمزاً للقاء الأحبة والأصدقاء، أو تحديد مواعيدهم فيها، مثلما أصبحت متنفساً للأسر العراقية المحترمة، وسفرات للمجاميع الثقافية الأخرى.. بعد تأهيلها وصيانة رمزياتها الفنية بأبهى صورة تليق بها وببغداد الجميلة. بعدما أن كانت مآوى للصعاليك، والسكارى، واللصوص، والمشعوذين.
جهودٌ استثنائيَّة للأمانة
أمانة بغداد يجب أن نوجه لها رسائل الامتنان، من خلال الجهد المبذول من قبلها لارتداء الحديقة ثيابها المتألقة والمتأنقة بها، من خلال زرع العشرات من أشجار النخيل كسورٍ للحديقة، بديلا عن سجنها داخل الكتل الكونكريتية، التي جزعت عيون وقلوب المواطنين منها، اضافة إلى زراعة العشب والزهور والنافورات المضاءة بالنشرات الضوئية والوسائل الترفيهية الجاذبة للاطفال، وترميم نصب وتحف مثلثها الفني، وهذا لا يعني اكتفاء الأمانة بهذا الجهد الاستثنائي، لأن العاصمة تحتاج إلى المزيد، وهذا ما أكدت عليه تصريحات المدير العام لدائرة المشاريع في الامانة يقظان الوائلي والتي جاء فيها: " أن خطة أمانة بغداد للعام الحالي، تتضمن تحويل جميع المناطق البيضاء وغير المستخدمة إلى مناطق خضراء، حيث باشرنا أكثر من 24 حديقة، وكان آخرها الأسبوع الماضي، وتمت المباشرة بأكبر حديقة في بغداد بمساحة 25 دونماً، وماضون بتحويل جميع المناطق الفارغة إلى مناطق خضراء"، مضيفا " أن الأمانة لديها حملة لإعادة تأهيل وتطوير وزيادة المناطق الخضراء في متنزه الزوراء، وأيضاً معسكر الرشيد حيث دخل حيز التطبيق بحسب توجيه رئيس الوزراء، بالإضافة إلى دخول غابة بغداد بأطراف الكاظمية حيز التنفيذ القانوني وستتم إجراءات المباشرة قريباً".
وأنا أرزم وريقات الرحيل عن قلادة بغداد الفاتنة وأرى الفرق الشاسع والواسع بين حديقة الأمس، التي أراها اليوم، قمت مرددا مع شاعرنا الكبير مصطفى جمال الدين، وهو يغازل عاصمة المجد قائلا:
بغداد ما اشتبكت عليكِ الاعصرُ...
إلا ذوت ووريق عمرك أخضرُ
مرّت بك الدنيا وصبحك مشمسٌ...
ودجت عليك ووجه ليلك مقمرُ