عواطف مدلول
تحدث بين آونة وأخرى حالات انتحار في أغلب البلدان باختلاف بيئاتها وطبيعتها وظروفها، وقد أصبحت تتركز في السنوات الأخيرة بنسبة أكبر لدى فئة الشباب، لا سيما بمجتمعاتنا الشرقية، إذ باتت تحصل في العراق بالذات بشكل يثير القلق والتساؤلات، تدور وتنسج الحكايات حولها بقصص معظمها غير مكتملة، فالأسباب متضاربة أو تكاد تكون مجهولة، تلك التي تدفع بأحدهم إلى اختيار إنهاء حياته بنفسه وهو في ريعان شبابه.
ترى نسرين حاكم أنه ليس هناك إنسان سعيد ومتوازن من الممكن أن يقتل نفسه، فالبؤساء والمهمومون الذين يعانون من ظروف صعبة وقاسية هم من يسعى لذلك، مع هذا فكلنا معرضون لمثل تلك المحن، لكن لا نقدم على فعل نؤذي به أرواحنا ونرهقها، مضيفة: أستغرب إلى أي مدى وصل ذلك الشخص بحيث أصبح من السهل عليه أن يضحي بشبابه ويخسر حياته، ولا يمكن أن نضع اللوم عليه هو فقط، إنما على الناس الذين حوله، فكل منهم مشغول بنفسه، تاركيه غارقاً بأفكاره المتشائمة وأحزانه.
بينما يجد محمد ثابت أن ضعف الإيمان وانتشار الفساد، بعد التطور الذي أخذ شبابنا منه الأمور السلبية بنسبة أكثر من الإيجابيات، هي أبرز أسباب الانتحار بينهم، ويشير إلى أنه من الضروري ألا يقنط الإنسان من رحمة الله، فهناك حلول وخيارات كثيرة أمام البشر للتأقلم مع مصاعب الحياة وتجاوزها وتقبل مرارتها، ومن المستحيل أن يتركهم رب العالمين من دون إنقاذ، فكل عسر يأتي بعده يسر بإذنه تعالى، ولذلك لا أتعاطف أبداً مع أي منتحر ولا تقنعني التبريرات التي يضعها الناس لذلك.
لا تنكر سرى أحمد أنها تمنت الموت ولمرات كثيرة بعد الأزمات التي تعرضت لها أسرتها، وفشلها بتحصيل معدل عال يؤهلها لدخول الاختصاص الذي طالما حلمت به وما لحقها من فترة اكتئاب، عاشت تفاصيلها بألم، لكن في كل مرة يأخذها تفكيرها نحو هذا الاتجاه المظلم، تتلقى رسالة ربانية من خلال موقف ما أو حدث معين، فتهدأ وتستقر ذاتها وتستغفر الله ذاكرة نعمه التي لا تعد ولا تحصى عليها.
تبين الدكتورة ايناس القباني، معاون مدير مركز الدراسات والبحوث في وزارة الثقافة والسياحة والآثار أن هذه الظاهرة أضحت شائعة ومنتشرة بالعراق بين فئة المراهقين والشباب، لذا لا بد أن نتعرف ونعود بالتاريخ لأصلها، وفي أي ظروف كانت تجري سابقاً، حيث تطلق مجازاً على الأشخاص الذين يقومون بمهام صعبة أو بأفعال قد تؤدي بهم إلى الانتحار، فهي ظاهرة تطلق مجازاً بأنهم فارقوا الحياة أو أنهم جنوا عليها بالقتل، ويذكرنا ذلك بالشاعر الكبير أبي الطيب المتنبي الذي هجا أحد الأشخاص المهمين، وكان هجاؤه قاسياً جداً، ما أدى فعلاً إلى قتله، وكان مصير مالئ الدنيا وشاغل الناس أن يكون ضحية هجاء، قد أطلقه من خلال أشعاره أدى به إلى الموت بتلك الطريقة.
وتضيف القباني: حالياً باتت تلك الظاهرة اليوم من المواضيع الحساسة التي تلامس الأسرة العراقية، فكلنا نعيش في بيئة اجتماعية محافظة ودينية أيضاً، على الرغم من أنها ليست البيئة العامة للجميع، لكن هناك ضوابط وأعرافاً اجتماعية معمول بها لا يمكن تجاوزها، وما زالت حتى الآن حالة الانتحار تؤدي إلى الخجل أو الشعور بالخزي والعار من قبل أهل الشخصية القائمة بذلك الفعل، سواء كانت شاباً أو شابة، وهذا الأمر يجعلنا نبحث عن أسباب الظاهرة والسعي للحد من
انتشارها.
موضحة بقولها: بالتأكيد هناك ضغوط قادت إلى تلك الظاهرة قد تكون سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، لذا يجب أن نبحث الموضوع من هذه الجوانب، بالإضافة إلى الجانب النفسي الذي هو السبب الرئيس بالدرجة الأولى، كذلك التأثيرات الثقافية والقضايا التي تتعلق بالشرف والعيب وضغط المجتمع، كلها أمور تؤدي إلى تلك الظاهرة، والدخول بدوامة المخدرات أو الابتزاز الالكتروني، خاصة للمراهقات الفتيات الصغيرات دافع آخر للقيام بذلك العمل المرفوض. مشيرة إلى أن الواقع يفرض علينا أن نفكر بكيفية المواجهة، وبما أننا الآن في عصر الانترنت والإعلام هو سيد الموقف دائماً بكل مجالاته، والجانب المهم الذي له الحظوة بالتأثير على المتلقي، بما يتم طرحه عليه، حيث يمكن أن يتبع آلية تقديم الإيجابية الواسعة ومكافحة السلبيات التي تعمل على تعزيزالشعور بالعزلة من خلال المقارنات الاجتماعية السلبية، كذلك تلك الإيجابيات التي تنشر على ألسنة الشخصيات المشهورة مهمة جداً، ويمكن الإفادة منها ببث مضامين فكرية عالية المستوى، لأنها تكون سهلة و تساعد المراهق على التخلص من المشكلات التي يتعرض لها، أو بث أفكار جديدة تسهم بذلك ومن خلال تلك السبل نحاول الوصول لحلول تنهض بالواقع النفسي وتحقق التوعية.
وتنصح القباني بزيادة أعداد البرامج التي تستهدف جمهور الشباب، وتركز على كل ما يخصهم وبأساليب مشوقة وجذابة كما تحفز المواهب وتشجع على اكتشافها، برامج ليست ترفيهية فقط، وتمكين الشباب في التعبير عن آرائهم وأفكارهم وفتح باب الحوار لهم من أجل سحبهم إلى مساحات الأمان والثقة، وتهيئة مشاركات واسعة لهم بالبث المفتوح والاتصال المباشر، وتغطية نشاطاتهم وتقديم النصائح والتوجيهات لهم، وتزويدهم بمعلومات مفيدة لفهم العالم من حولهم بشكل أفضل، كما يجري من حولنا في الإعلام الخارجي، نستطيع أن نطبق جزءاً
منه.
وفي الحقيقة نحن نسير على الطريق الصحيح، فأشاهد بعض وسائل الإعلام لدينا لم تقصر أبداً، بذلك المجال، تكثف الاهتمام بالشباب وتتابع قضاياهم كافة، فمثلاً شبكة الإعلام العراقي تعيش تلك التحديات اليومية ببرامج ناجحة كثيرة، تؤدي دوراً كبيراً في معالجة مثل تلك الظواهر بطريقة مباشرة وغير مباشرة.