قد يبدو الاهتمام بهذه القضية والكتابة عنها هو اهتمام (خارج النص) في ظل الاستغراق بالسجالات والصراعات بين الكتل السياسية والسياسيين التي يعكسها الاعلام بضخ متواتر يكاد يغطي على كثير من القضايا التي تهم المواطنين . فرغم الاهمية القصوى لهذه القضية التي تمس حياة الغالبية العظمى من العراقيين .. تبقى قضية مسكوتاً عنها بشكل كبير وتكاد تنعدم الدعوات والمساعي لألزامية تحقيقها ، وذلك بالرغم من حدة ووضوح التعبيرات والمظاهر الاجتماعية والانسانية والسياسية التي تشير اليها حالة المعاناة المروعة لنسبة عالية جداً من المواطنين على الصعيد المادي والصحي والاجتماعي والخدمي والسكني والتي يجري التعبير عنها بمختلف الوسائل والتعبيرات المشروعة .
ولأهمية هذه القضية أقيمت في العاصمة البريطانية لندن يوم 14 حزيران الحالي ندوة علمية تحدث فيها استاذ القانون الدولي الدكتور نوري لطيف الذي أوضح اهمية والزامية تحقيق الضمانات الاجتماعية ليس فقط بالاستناد الى الضرورات الوطنية والانسانية والاخلاقية لتحقيقها ، انما بالاستناد ايضاً الى ما نصت عليه الشرائع السماوية والمواثيق والعهود الدولية والوطنية التي تؤكد بوضوح شديد ضرورة والزامية تحقيقها .
وبعد ان ذكر المحاضر بأن الضمانات الاجتماعية والصحية المطلوب تحقيقها هي ليست مكرمة او مّنه او تفضل ممن يمسك بزمام الامور والسلطة ، وحدد الاطار العام للقضية ، قدم نبذة تاريخية عن جذور الأخذ بها وتطورها مع تطور مستلزمات الحياة وأشار الى ان بريطانية هي اول من بدأ بتحقيق هذه الضمانات ابتداء من العام 1601 ثم تطورت قوانينها خلال الاعوام 1944 و 1949 والتي اصبحت الدولة بموجبها مسؤولة عن الخدمات مباشرة وتضمنت ميزانيتها العامة مبلغاً من الانفاق السنوي على الفرد الواحد .
وفي تناوله لما نصت عليه أحكام الشريعة الاسلامية للضمانات الاجتماعية اشار الى انها دعت الى ان تكفل الدولة لكل فرد فيها من المسلمين وغيرهم ما اطلقت عليه (حد الكفاية) من المأكل والملبس والسكن وهي مستلزمات اساسية لعيش الانسان وتكريمه ، تطبيقاً للآية القرآنية الكريمة (ولقد كرمنا بني آدم ) وبذلك ، ووفقاً لما نص عليه دستور 2005 النافذ بأن الاسلام هو دين الدولة الرسمي ، فهذا يشير الى ان هذه الدولة معنية بالزامية تحقيق الضمانات الاجتماعية والصحية لكل أفراد المجتمع العراقي .
اما المواثيق والقوانين الدولية الوضعية ، فقد اشار المحاضر الى ان القانون الدولي العام المعاصر قد تبنى ضرورة تحقيق حقوق الانسان ، وكانت الحروب والكوارث والمآسي التي نجمت عنها لملايين البشر عاملاً مؤثراً وضاغطاً لوضع تشريعات للضمانات الاجتماعية وتشجيع التحولات الديمقراطية وقد ورد في ديباجة ميثاق الامم المتحدة مثلاُ ، النص على (نحن شعوب الامام المتحدة نستخدم الاداة الدولية في ترقية الشؤون الاقتصادية والاجتماعية ) وقد نصت المادة (55) من الميثاق على ان (تعمل الامم المتحدة على تحقيق مستوى معيشي اعلى لكل فرد والنهوض بعوامل التطور والتقدم الاقتصادي والاجتماعي ).. هذا وقد تطور اهتمام العالم ومؤسساته الدولية خلال العقود الماضية بأصدار المواثيق والعهود الدولية الخاصة بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي على حكومات الدول الالتزام بها وعدم خرقها وفيما يتعلق بألزامية تحقيق الضمانات الاجتماعية والصحية في العراق (قدم الان الى البرلمان مشروع قانون الضمان الصحي ) فقد كرس دستور 2005 النافذ من الباب الثاني تحت عنوان (الحقوق والحريات ) حيث تحدثت ثماني مواد من المادة 14 حتى 21 عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي ينبغي ان يحصل عليها افراد المجتمع ، وذلك اضافة لما نص عليه العديد من المواد الدستورية الاخرى .
لاشك ان احكام الشريعة الاسلامية والمواثيق والعهود والقوانين الدولية وما نصت عليه العديد من المواد الدستورية لألزامية تحقيق الضمانات الاجتماعية والصحية للفرد العراقي تبقى جميعها من دون جدوى ما لم يتم تحقيقها على صعيد الواقع العملي ، وان ما يؤكد تجاهل وأهمال تلك الاحكام والقوانين والمواثيق ، خاصة في العراق ، هو ما تشهده من معاناة ومآسي ملايين العراقيين ، الذين يفتقدون لألزامية تحقيق الضمانات الاجتماعية والصحية ، الامر الذي يتطلب من الجهات المعنية ، الرسمية وغير الرسمية ، ومنظمات المجتمع المدني ، السعي الجاد والعمل المتواصل من اجل تحقيقها ، كواجب وطني وانساني واخلاقي على الجميع.