حنين صابر
يجلس سالم قبيل شاشة هاتفه، وهو يرسم ملامح شخصيته الافتراضية، بعبارة مختصرة يضعها في السيرة الذاتية، يكتب اسماً ويضع صورةً رمزية، أملًا منه أن يلتمس تلك الملامح التي تستهويه، يقاطعه أخوه أحمد مازحاً: لنرى هل تصف شخصيتك الحقيقية في الموقع؟.
يُخلَق الإنسان حاملاً معه هويته الفعلية، ليتم فيما بعد تنسيبه لهوية دنيوية، أو وطنية، أو دينية محددة، انتهاءً بشهادة الميلاد ورخص القيادة وغيرها، وبهذهِ الطريقة، سيكون من السهل علينا أن نتعامل مع من يحيطون بنا، فتتولد الثقة، ويتم التواصل بشكل طبيعي.
وتأتي بعد ذلك العوالم الافتراضية من خلال استخدام الهوية الافتراضية في مواقع التواصل الاجتماعي والتي تتطلب المثالية في التعامل، واتباع أساليب تكاد تكون متشابهة حتى في طرح المشكلات الشخصية، ومشاركتها وطرق إيجاد الحلول لها، بالإضافة إلى الانطباع الأول الذي يتكون بسهولة أكثر عما هو في الواقع، ومثال على ذلك قادة المنظمات التي ظهرت في الآونة الأخيرة، كالنسوية وغيرها بأن تشكل تجمعاتها الافتراضية، التي تكاد أن تتهشم حلقات وجودها في واقع المجتمعات الشرقية.
انفصام الشخصيَّة السليم
وتختلط مجتمعات اليوم ببعضها البعض، لا سيما أن المجتمع الغربي قد فرض سطوته بشكل نسبي على المجتمعات العربية، وفقاً لسياسة مقصودة، فشخصية الفرد الافتراضية اليوم أصبحت مقاربة تماماً لشخصية الفرد الغربي في واقعه، ولو نظرنا في الأمر سنجد أن الشخصية العربية في ظل ما عاشته من حروب وأزمات وكبت وحرمان، أصبحت سهلة التأثر، وباتت تعيش الشخصية التي تختارها في مواقع التواصل الاجتماعي، وتعود فيما بعد إلى الواقع بالشخصية الحقيقية.
تنوُّع
ويناقش الباحث الاجتماعي ولي الخفاجي قضية الهوية الافتراضية، التي يسجلها الفرد من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، أو من خلال الحياة الاجتماعية بشكل عام، خلال حديثه ويقول: إن "الهوية الافتراضية تتخذ أشكالاً عدة، أما الأول فهو البيئة المحيطة، حيث يعبر الإنسان عن البيئة التي ينتمي إليها، من حيث الطائفة أو القبيلة، ودائماً ما نراه في مواقع التواصل يرمز إلى هذه القضايا من خلال الصورة التي ينشرها، والتي تعبر عن شخصيته، وعن المواضيع، والمداخلات، والتعليقات، وغيرها من التفاعلات، أما الشكل الثاني فهو ما يعانيه الفرد أحياناً من قضية الحرمان، وتعد أهم نقطة نفسية، فعندما يعاني الإنسان من حرمان في قضية من القضايا التي قد تكون قضايا عاطفية، أو مادية، أو تقدير اجتماعي، يعبر عن هذا الحرمان، بواسطة مواقع التواصل الاجتماعي".
رسائل
ويُركز الخفاجي على أن القضية لا تقتصر فقط على مواقع التواصل الاجتماعي، بل يسري ذلك حتى على نغمات الهاتف أحياناً. فعندما يعين الفرد نغمة هاتفه يختار التي تناغم تطلعاته، وهواياته، وحرمانه، وهذه جميعاً بمثابة رسائل يطلقها عن طريق الوسائل المتوفرة لديه، قاصداً بها جهات معينة، وهي أما أن تكون رسالة تهديدية، أو رسالة تعريفية، أو أي نوع آخر من الرسائل.
ويختتم ولي الخفاجي حديثه لـ (الصباح) قائلاً: إن "الفرد في مواقع التواصل الاجتماعي دائماً ما يستخدم هوية ليست هويته الحقيقية، وإنما تعبيراً أو تعويضاً عن الشعور بالنقص الذي يعتريه".
هويَّة نرسيس
يؤكد أحمد علي (33 عاماً) أن أخاه سالماً يقضي معظم وقته على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا يبرح مكانه حتى أراه ينتقل من حسابٍ إلى آخر، وحسب كلامه فإنه يريد أن يجد ضالته وهي إرضاء المتابعين لصفحته الشخصية في "الفيسبوك". ويضيف أحمد بحديث خص به (الصباح)، أن "أخي يحاول قدر استطاعته أن يظهر لمتابعيه بأنه الأفضل في كل شيء، فعندما يرى أحداً قد طرح سؤالاً في الجانب الصحي، تراه قد أصبح طبيباً متخصصاً، بينما تراه يناقش في أمور السياسة بالرغم من عدم مشاهدته لخبر واحد من الأخبار المحلية والعالمية".
وتابع علي، "نظراً لكون أغلب الشخصيات الافتراضية تتصف بأنها تتمحور حول الذات وتحاول إبراز نفسها، فلا يهم هنا سوى الإعجابات، والمشاركات والتفاعلات، فهي تهم أكثر من توطيد العلاقات في هذا العالم الافتراضي، فقط لكي يكسب الفرد المكانة المتميزة والبارزة التي يفتقدها في عالمه الحقيقي".
الخروج من المنطقة الرماديَّة
ختاماً، إن الإنسان في طبيعة الحال يحب محاكاة أو تقليد
نظيره الآخر، ونظراً لكون مواقع التواصل الاجتماعي مكاناً يعطي الحرية بشتى الممارسات، فيختار كل فرد الشخصية التي تعجبه،
والتي قد لا يستطيع تقمصها في الواقع، وهذا سيجعله متقوقعاً في المنطقة الرمادية طيلة حياته، وعلاوة على ذلك فإن الخصوصية الثقافية ستكاد تكون معدومة بين المجتمعات مع مرور السنين، واستمرار بعض العادات الصارمة في بعض المجتمعات سيجعل من السهل التأثر والعيش داخل شخصية افتراضية واحدة مهمتها الهروب من الواقع، ويبقى السؤال، هل
يستطيع الفرد الخروج من المنطقة الرمادية، ليعيش حياته بلون واحد محايد؟.