روبن مكاي
ترجمة: أنيس الصفار
هو أغرب نجم في مجرتنا.. كرة من ضوء خافق حيّرت علماء الفلك عبر السنين بانبعاثاتها المتفرقة التي لا يمكن التنبؤ بها. لكن دراسة حديثة للنجم “بوياجيان” ارتقت مؤخراً لتصبح أنموذجاً بحثياً ربما سيساعدنا في تحقيق واحدة من اشد المهام العلمية اثارة للاهتمام: وهي العثور على حياة ذكية على عوالم اخرى غير كوكبنا.
نجم غريب السلوك في مجرتنا؛ هذه هي الجدلية التي طرحها البروفسور “كرس لنتوت”، أستاذ الفيزياء الفلكية بجامعة أوكسفورد، خلال محاضرة بعنوان: “هل هم غرباء من عالم آخر؟ النجم الأشد غرابة في المجرة.
” كان هدف البروفسور لنتوت الرئيس هو النجم “بوياجيان”، الذي يطلق عليه احياناً الاسم الرمزي “نجم تابي”، نسبة الى عالمة الفلك “تابيثا بوياجيان” ويقع ضمن “كوكبة سايغنوس، أو الدجاجة”، والذي كان تقلبه ما بين الخفوت والسطوع موضع دراسة مكثفة بواسطة مجسات الفضاء والمراصد الفلكية.
قال لنتوت: “لهذا النجم سلوك غير اعتيادي، فهو ذو تقلبات عشوائية وسريعة ينخفض خلالها سطوعه ثم يعود بعدها متوهجاً كما كان. هذا السلوك لا يخضع لنسق محدد، فخفقان وميضه كما لو ان هناك يداً تعبث بمفتاح شدّة الاضاءة. ومجرتنا بأكملها ليس فيها نجم آخر مثل هذا.”
خضع نجم “بوياجيان” للدراسة مفصلاً من قبل مرصد “كبلر” الفضائي سنة 2012 حين اكتشف سلوكه المتقلب لأول مرة. ودلّت عمليات الرصد على وجود كتلة هائلة من المادة تدور حول النجم عبر تشكيل ضيق محكم، وهذه الكتلة هي التي تحجب ضوءه على هذا النحو المتقطع.
لكن، ما هي طبيعة هذه الكتلة الهائلة من المادة؟ طرحت حلقات الغبار وفتات المذنبات وأسراب الكويكبات كتفسيرات محتملة للأمر، وهناك توجه نحو نظرية علماء جامعة ولاية بنسلفانيا، التي تفيد بأن الكتلة المتسببة باحتجاب الضوء ربما تكون بنى ومنشآت عملاقة هائلة من صنع كيانات غريبة.
نطاقات دايسون
مثل هذه البنى اقترحها الفيزيائي “فريمان دايسون” الذي يسوق حجة مفادها بأن بعض الحضارات الغريبة في الكون ربما تكون قد بلغت مستوى من التقدم مكنها من بناء تشكيلات واسعة من الألواح الشمسية أحاطت بها شموسها كي تجمع لها الحرارة والضوء. هذه الصروح المدارية العظيمة، التي أطلق عليها علماء الفلك تسمية “نطاقات دايسون” أو “أسراب دايسون”، تستخدمها هذه الحضارات البعيدة للتزود بالطاقة.
مجرد فكرة عثور الفلكيين على مثل هذه الهياكل البنائية بالصدفة أطلق العنان لعناوين الأخبار في شتى انحاء الكرة الارضية، ولكن ذلك لم يدم طويلاً، لأن البحوث اللاحقة قوضت هذه الفكرة. يقول لنتوت: “لقد اكتشفنا ان الضوء حسب الأطوال الموجية المختلفة يتعرض للحجب بنسب مختلفة، وهو ما يمكننا توقعه بالضبط من ضوء نجم يمر عبر سحابة غبار.”
من المحتمل اذن أن تكون الكتلة التي تحجب ضوء “بوياجيان” مجرد سحابة غبار تولدت عندما مر كوكب ما على مقربة شديدة من سطحه، ولعله احتك به فانسلخ جزء منه وانفصل، كما تقول حجة لنتوت. لكن دراسة الجسم الغريب لها اهميتها رغم ذلك لأنها تسلط الضوء على التقنيات التي سيقدر لها أن تصبح اكثر أهمية مع تكاثف مساعي البحث مستقبلا لتحديد أماكن وجود الحضارات الغريبة عن عالمنا.
في غضون 50 عاماً يتوقع لعالمنا البشري أن يدخل مرحلة “الصمت الراديوي” – وهذا قد يصدق بالمثل على حضارات أي كوكب آخر. يقول لنتوت: “البحث عن كائنات ذكية خارج عالمنا الأرضي مستمر بالتغير. وكنّا نعتمد سابقا بشكل شبه كامل على التسلكوبات الراديوية لتحري وجود أي شكل من أشكال البث او الارسال صادر عن حضارات غريبة، بالضبط مثلما يمكن ان يكشف بثنا الراديوي او التلفزيوني لتلك الحضارات عن وجودنا. لكننا لم نسمع منهم شيئاً على الاطلاق حتى الان”، مضيفا: “ليس لنا ان نستغرب ذلك او نتفاجأ به، لأن البشرية قد تخطت نقطة الذروة في بث موجاتها الراديوية، وصرنا نستخدم بشكل متزايد وسائل الاتصال بالحزمة الضيقة وكابلات الألياف الضوئية، بدلاً من ارسال اشارات بثنا التلفزيوني والراديوي الى البيئة بشكل مطلق غير مقيد”.
دخول الغرباء
نتيجة لذلك، كما يعتقد لنتوت، قد تدخل البشرية “الصمت الراديوي” في ظرف 50 عاماً، والشيء نفسه يمكن ان يصدق على حضارات العوالم الأخرى، ويضيف: “من المؤكد انهم سينتقلون ايضاً الى الصمت الراديوي بعد حين مثلما نفعل، لذا سنحتاج لتعزيز تلسكوباتنا الراديوية بوسائط أخرى تعيننا للبحث عن غرباء الفضاء. يجب علينا ان نكون أكثر ابتكاراً وتفنناً بشأن ما نبحث عنه عند تنقيبنا في البيانات مفتشين عن اي اشياء شاذة عن المألوف تكشف لنا انها من صنع غرباء الفضاء.”
من هنا سيكون البحث عن “نطاقات دايسون” (وهي مصفوفات هائلة من الألواح الشمسية يصل حجمها الى حجم كوكب) احدى الطرق الأساسية لتحقيق ذلك الهدف، ولو اننا سنكون بحاجة ايضاً الى وسائل أخرى تساعدنا في تحديد الأشياء التي من صنع غرباء الفضاء تحديداً دقيقاً. من الأمثلة على ذلك ما يمكن ان توفره لنا حضارة فضائية غريبة اثناء قيامها بأعمال التعدين والتنقيب في الكويكبات القريبة من كوكبها الأم، لأن تلك المساعي لا مفر لها من انتاج سحب من الغبار بين الكوكبين التي ستشي بوجود تلك الحضارة، من خلال اشعاعاتها ما دون الحمراء.يمضي لنتوت مستطرداً: “غرباء الفضاء قد لا يكشفون عن انفسهم من خلال بثهم الراديوي، لكنهم رغم هذا قد يعلنون عن وجودهم بسهولة من خلال ما ينبعث من راداراتهم التي يستخدمونها لتوجيه طائراتهم ومركباتم الفضائية. وهذا يعيدنا الى ضرورة التدقيق جيداً في هذه الأطوال الموجية بحثاً عن العلامات المفصحة عن وجودهم.”
مثل هذا العمل سيتطلب تحليل مخزونات هائلة من البيانات، وقصة النجم “بوياجيان” تضع بين ايدينا هي الأخرى تطبيقاً اساسياً في كيفية القيام بذلك. فأسراره قد تكشفت على يد جيش من العلماء المدنيين وافراد من عامة المجتمع الذين جمعوا وحللوا الكم الهائل من البيانات التي التقطتها الأجهزة، التي جسّت النجم وتحسسته، على حد تعبير لنتوت. يمضي لنتوت مستطرداً فيقول: “جهودهم المشتركة في تحليل البيانات الخاصة بالنجم بوياجيان هي التي كشفت أن هذا النجم يتصرف على نحو خارج عن المألوف، ومن المرجح جداً أن تلك الجهود نفسها ستساهم في توجيه أنظارنا الى نجوم أخرى في مجرتنا ذات غرابة وشذوذ من خلال مشاريع مستقبلية. ومن يدري، لعلهم سيصيبون الهدف ويقعون على الكنز المنتظر.”
عن صحيفة “الغارديان”.