تنافر الأصل والنسخة

آراء 2024/09/16
...






 رعد أطياف

تواجهنا الكثير من التحديات في الحياة، ومطلوب منا مواجهتها ذلك إن الهروب يعمق من منسوب المعاناة. ومن جملة ما نواجهه في هذه المسرحية الكبرى عدة أمور، يبدو أغلبها جديرا بالمواجهة، ومن هذه المشاهد هو عدم الرضا عن أشكالنا الخارجية، كما لو إن الأمر متوقف على عدم رضانا! وكأننا نغدو بأشكال جميلة لمجرد عدم الرضا.

كلنا نقع ضحية معايير كاذبة ومزيفة نحاول أن نسقطها على ما نرغب ومنها جمال أشكالنا. والسؤال هنا: ماذا سوف يتغير بهذا العذاب الذي نضيفه لأنفسنا؟ ألا نجعل من أنفسنا أضحوكة ونحن نتصارع مع اشكالنا الخارجية التي لا يغيرها سوى الموت؟!

إن أحد أسباب هذه المعاناة الفظيعة هي الأنانية المفرطة والتمركز حول الذات والشعور بالأهمية أكثر من الآخرين. لمجرد الاطلاع على أشكالنا الخارجية، من خلال التقنيات المعاصرة سنرى أجمل عين في العالم ليست سوى كهوف مخيفة! والحال ينطبق على أجمل بشرة في العالم، فمنظر الجلد من خلال الصور المكبرة سوف لا نجده مطابقاً لرغباتنا الجامحة.  التقنيات المعاصرة نفسها هذه تحيل أشكالنا الخارجية، عن طريق الفلتر، إلى ما نرغب.. لكن، يا للحسرة، أنها صورة مشوهة عن الأصل، ولا تمحو طرق التعذيب اليومية التي نكابدها من تلك الملامح التي لا تفوز برضانا. العيوب هي الطامة الكبرى التي تهدد سكينتنا، والفلتر معين لا بأس به لستر هذه العيوب، لا بد من تنشيط الرغبة إلى مستوياتها الجامحة ونلوّن أشكالنا ونحتال على دائرة الزمن لنغدو أصغر عمراً ممّا نحن عليه بالفعل. في زمن الطفولة البريئة كان ينتابنا حال من الدهشة ونحن ننظر لملامحنا في الصور الرسمية. كان بعض أرباب الاستديوهات حينذاك «يفلترون» ملامحنا وتغدو عيوننا، وألوان بشرتنا على غير طبيعتها بعض الشيء. أما اليوم فتكاد هذه الفلترة تطغي على ملامحنا وتحيلنا إلى اشخاص آخرين! تبدو هذه التقنية «الماكرة» استكمالاً لشهواتنا الجامحة، التي يغريها أن تشكل تصورات مزيفة عما نحن عليه بالفعل.

إن هذه التعديلات المحمومة، بواسطة الفلترة المستمرة على صورنا الشخصية، تفصح عن بعض الشقاء البشري، الذي يتمثل في عدم رضانا عن أشكالنا الحقيقية. حتى أن الواحد منّا لا يكتفي بصورة واحدة، بل يجري عدة تجارب كفاحية للفوز بالصورة الأجمل والأكثر نقاءً.  لكنّ الخبر غير السعيد أن أشكالنا الحقيقية ستبقى شاخصة أمامنا ولا ترفع من رصيدنا الجمالي المميّز. نحن نحاول الالتفاف على نسخنا الأصلية بأخرى مشوهة نعلن من خلالها حالة خصام وتنافر أبدي بين الشكل والمضمون، بين الأصل والنسخة، وهذه غربة إضافية نسقطها، نحن البشر الفانين، على أشكالنا الخارجية، كما لو أن هذه السلسلة الطويلة من الشقاء البشري، لم تعد تشبع فضولنا ولا تثير تساؤلات وجودية بقدر ما يثير نزواتنا الصبيانية لقطة عابرة لصورة مفلترة يتقلّص فيها الزمن لنغدو، نحن الكهول، كما لو أننا صبية في مقتبل العمر، فنعمد على خلق وابتكار سلسلة جديدة من المعاناة عبر الضخ المتزايد من الصورة المفلترة.  أجريت عدّة «حوارات» مع ابنتي ذات الأعوام التسعة لأقنعها، أنها أجمل وأكثر نقاء من الصورة المفلترة. أعتقد أنني نجحت إلى حد كبير!