عباس هادي.. حبيس فرن الصمون

منصة 2024/09/17
...

 بغداد: مآب عامر

يعرف عباس هادي جيداً أن صناعة الصمون تحتاج لجهد ووقت كبيرين، فهي مهنة تفرض على عاملها في فرن الصمون أن يتفرغ بشكل كلي تقريباً لمزاولتها بنجاح.إذ وجد هادي نفسه يعمل لنحو 15 ساعة في اليوم مقابل مبلغ قليل من المال. ويقول إن “ساعات العمل الطويلة بالنسبة لي تبدأ من الساعة 3 ونص فجراً وتنتهي حتى الساعة 10 ليلاً”، موضحاً أن “العامل يشعر وكأنه بسجن لأن حياته عبارة عن عمل وأكل ونوم فقط، حتى أفراد أسرته لا يتمكن من رؤيتهم ولا يشارك الأصدقاء والمعارف المناسبات وغير ذلك من مَشاوير..

باختصار شديد حياة عامل فرن الصمون متعبة نفسياً وجسدياً”. 

ولكن قانون العمل العراقي رقم 37 لعام 2015 والذي يسري على القطاع الخاص، ينص وفقاً للمادة 67  لا يجوز أن تزيد ساعات العمل عن الثماني ساعات في اليوم والـثماني وأربعين ساعة في الأسبوع، كما ويفرض القانون استراحة أثناء ساعات العمل ما بين نصف ساعة أو الساعة وفقاً 

للمادة 68. 

أما إذا تجاوزت ساعات العمل الوقت المحدد قانونياً، فللعامل أجر إضافي، وأن يمنحهم يوم راحة في الأسبوع التالي، كما ويستحق العامل راحة أسبوعية لا تقل عن أربع وعشرين ساعة متواصلة بأجر، ويكون يوم الجمعة العطلة الأسبوعية ويجوز تبديله بيوم آخر في الأسبوع. كما تنص أن لصاحب العمل بالاتفاق مع العمال تشغيلهم أيام الراحة الأسبوعية والعطل الرسمية على أن يدفع لهم أجورهم وفقاً للمادة 70 من 

القانون.

ويشير هادي، وهو الآن في الثامنة عشر من عمره إلى أنه يعمل في فرن الصمون، منذ 5 أعوام، وتحديداً عندما كان بعمر 13 عاماً. حيث يبدأ بالاستيقاظ عند الساعة الثالثة والنصف صباحا، وهو على قدر كبير من العجلة، بينما أفراد أسرته لا تزال في غياهب النوم، حتى يتمكن من اللحاق بموعد عمله في الفرن، كما يضيف الشاب أن “سبب اختياري لهذه المهنة. صار بالصدفة وكنت سعيدا في وقتها لأنه كان أول عمل أمارسه بشكل يومي”. 

عباس هادي الذي يحمل شهادة مرحلة الدراسة المتوسطة، يعشق القراءة بشكل كبير، كما يقول إنني “أجد نفسي بين العمال والفقراء”. 

أفنى هذا الشاب سنوات صباه بين نيران الفرن، وهو يجد عمله حرفة جميلة ومفيدة، و “كما نعلم المواطن العراقي لن يتخلى عن الصمون الحار وخاصة في أوقات الصباح الباكر”.

إلا أنّ صعوبة هذا العمل تكمن في عدد من التفاصيل، منها كيف يصل هذا الصمون الحار إلى أيدينا؟  وماذا يحدث خلف الصورة من تفاصيل، ومن أين يأتي الطعم اللذيذ واللون الأبيض، وكيف يصل عمال الفرن إلى جودة عالية من

 الانتاج؟

ويضيف هادي أن عملي جميل ومفيد للناس لكن ظروفه صعبة جداً، خاصة ما يعانيه العمال في صناعة الصمون من قبل “الخلفات” حيث الاستعباد والتعامل بشكل قاسٍ. فالبرغم من تحسن معاملة الخباز مع من يعمل تحت أمره، إلا أن هذا الأمر لا يزال يشكل معاناة في مسألة التعامل الفج والبعيد عن الإنسانيَّة. 

ويرى هادي أن المضطهد بعمل الأفران هو “التختجي” الذي يقدم طاوليات عجين الصمون إلى الخباز، فالكثير من الخبازين ينظرون إلى «التختجي» كالعبد، فيثقلون عليه الواجبات التي ليست من ضمن مهماته، مثل اِعداد وجبات طعامهم وغسيل ثيابهم وغير ذلك من سلوكيات تظهر مدى استعباد هذا العامل وابتعاد الإنسانية عن 

التعامل. 

وكثيرة هي المواقف الصعبة التي مر بها هادي، نتيجة لممارسة العمل بأكثر من مكان، ولكنه يقول إن من أهم المواقف الجميلة في مشواري هذا هي عندما تمكنت من افتتاح الفرن الخاص بي.. لقد كان يوم افتتاحه من أجمل أيام حياتي آنذاك، «فبعد أن تركت العمل في الأفران لفترة، وصارت لديّ امكانية مالية، ولأني أحب أن أعمل لنفسي حاولت افتتاح هذا المشروع، لكنني لم أتمكن من الاستمرار فتركته بعد أن تكبدت بعض الخسارات».

ويتابع أن إدارة العمل بالأفران صعبة جدا، إذ يفرض عليك أن تعمل بنفسك من بداية العمل إلى نهايته «وأنت تشتغل بيدك وبلسانك» بمعنى أن تمشي في الفرن وتطلق تعليمات لخمسة عاملين على الأقل، يعني المجهود يصبح جسديا ونفسيا، لقد عملت إدارياً في أكثر من فرن، واكتشفت أن أكثر شيء يؤثر في عمله هو ارتفاع سعر الطحين وتقلبات أسعاره، فعدم استقرار أسعار الطحين بمعنى «يوم ينزل سعره ويوم يرتفع» بشكل جنوني هو السبب وراء 

الخسارات. 

ويقول: إننا لا نستخدم الطحين العراقي، بل الطحين التركي لأن العراقي نوعيته رديئة في العمل مقابل التركي، وبذلك يكون سعره أغلى بكثير من العراقي، وأصلا موضوع الطحين التركي فيه بعض الاشكاليات في استيراده الذي يسيطر عليه القليل من التجار الذين يتحكمون بأسعاره بينما نكون مجبرين على الشراء. وقد سمعنا أنه سيتم فرض الضرائب على استيراد الطحين من تركيا بمعنى أن ثمنه سيرتفع عن 

السابق.

 «وبدلاً من أن نقوم ببيع 10  صمونات بمبلغ 1000 دينار عراقي كالسابق، ارتفع سعر الطحين الطبيعي الذي كان بمبلغ 25 أو 27 ألف دينار وصار 38 أو 40 ألف دينار عراقي، فصار من 8  صمونات بمبلغ 1000 دينار عراقي، والآن قد يرتفع أكثر إذا ما نفذ هذا القرار، واعتقد هناك أفران تعرض 6 صمونات بمبلغ 1000 دينار عراقي”. 

كما ويتابع “هناك نوعان من الطحين العراقي الأول الذي يتم توزيعه مع مواد الحصة التموينية والثاني هو الطحين التجاري، وهذان النوعان يحتويان على نسب من مادة “نخالة” لكن طحين الحصة فيه نسبة أكبر بكثير من الطحين التجاري”. هذا الشيء يؤثر على جودة الصمونة أو الخبز بشكل عام حيث يتحول لونها للأسمر بدلا من الأبيض، لذا فالأفران يضطرون إلى استخدم الطحين التركي لأنه صافٍ من النخالة. 

ويؤكد أنه رغم المشكلات التي واجهتني والصعوبات، وكذلك من حيث العمال، والأموال والخسائر، وكيف أنني بقيت لأسابيع أنام تقريبا لساعتين في اليوم الواحد إلا أنني ما زلت أصر على أن تجربة افتتاح الفرن الخاص بي رغم تركه كانت جميلة ولست نادماً عليها، بل ولدي الاستعداد الكامل على إعادة التجربة من جديد لو سمحت لي الظروف لذلك.. لقد تعلمت بالفعل أشياء مفيدة عن سوق العمل وعن افتتاح المشاريع.

أما عن الأنشطة الإنسانيَّة والتطوعيَّة، فأنا أحاول أن أصلح أي شيء غير صحيح إن جاز التعبير بالمجتمع مثل حقوق المرأة وحقوق الطفل وتعريف العمال بحقوقهم وواجباتهم وغيرها من المشكلات التي نواجهها كأفراد في المجتمع.