مأزق اقتصادات السواحل سخونة مياه المحيطات

بانوراما 2024/09/23
...

 شارلز كولغان

 ترجمة: مي اسماعيل


تدعم السياحة المتعلقة بالمحيطات  والترفيه الساحلي أكثر من 320 ألف فرصة عمل ونحو 13 مليار دولار من السلع والخدمات بمنطقة فلوريدا الأميركية. لكن جاذبية السباحة في المحيط تناقصت خلال صيف العام 2023؛ حينما وصلت درجة حرارة المياه في ميامي نحو 38 درجة مئوية (100 فهرنهايت). كما أصبح مستقبل بعض الأعمال والمصالح التجارية بمنطقة إقتصاد المحيطات أقل أماناً مع ارتفاع درجة حرارة المحيطات والأضرار الناجمة عن العواصف، وارتفاع مستوى سطح البحر وزيادة موجات الحرارة البحرية. كانت درجة حرارة المحيطات في تصاعد مستمر طيلة القرن الماضي، حتى بلغت معدلات قياسية خلال السنة الماضية؛ أساسا بسبب انبعاثات غاز الدفيئة نتيجة حرق الوقود الاحفوري. ويُقدّر العلماء أن نحو تسعين بالمئة من الحرارة الزائدة الناتجة عن الأنشطة البشرية قد امتصتها المحيطات. هذا الفائض الحراري؛ الذي ظل مخفيا لسنوات في البيانات التي تهم علماء المحيطات فقط؛ أصبح الآن يُخلّف عواقب وخيمة على الاقتصادات الساحلية حول العالم. يقول كاتب المقال أنه يعمل منذ نحو اربعين عاما على فهم دور المحيطات في الاقتصاد؛ غالبا عبر دراسة المساهمات الايجابية للمحيط.. لكن هذا بدأ بالتغيُّر؛ احيانا بشكل دراماتيكي.. فالتحول المناخي جعل من المحيط تهديدا بطرق متعددة. 


ارتفاع مستوى البحر

أحد التهديدات الكبيرة التي تواجه الاقتصادات بسبب ارتفاع درجة حرارة المحيطات هو ارتفاع مستوى سطح البحر. فعندما تسخن المياه يتمدد مستوى السطح، والى جانب المياه الذائبة من الأنهار والصفائح الجليدية؛ أدى التمدد الحراري للمياه إلى زيادة الفيضانات في المناطق الساحلية المنخفضة وتعريض مستقبل الدول الجُزرية للخطر. أما الولايات المتحدة فسرعان ما سيغمر ارتفاع منسوب مياه البحر جزيرة “جان تشارلز” في لويزيانا وجزيرة “طنجة” بخليج تشيسابيك. وأصبحت الفيضانات عند ارتفاع المد (حتى خلال الأيام المشمسة) شائعة على نحو متزايد عند ساحل ميامي وأنابوليس وميريلاند ونورفولك وفيرجينيا وسان فرانسيسكو. وتضاعف معدل تكرار الفيضانات الناجمة عن المد العالي منذ العام 2000، وستصل الى معدل ثلاثة أضعاف بحلول العام 2050 على طول سواحل البلد. كذلك يدفع ارتفاع مستويات سطح البحر بالمياه المالحة للنفوذ الى طبقة المياه الجوفية العذبة، والتي يجري سحب المياه منها للزراعة. وقد بدأت بعض محاصيل سواحل كاليفورنيا تتأثر بالفعل بهذا الأمر. هذه التأثيرات ما زالت الى حدٍ ما صغيرة ومحلية الوقع؛ لكن التأثيرات الأكبر بكثير تأتي مع العواصف التي يعززها مستوى سطح البحر. تغذي مياه المحيط الدافئة العواصف الاستوائية؛ وهذا أحد الأسباب التي جعلت المتنبئين الجويين يحذرون من موسم أعاصير مزدحم لعام 2024.. تلتقط العواصف الاستوائية الرطوبة الموجودة فوق الماء الدافئ وتنقلها إلى المناطق الأكثر برودة؛ وكلما كان الماء أكثر دفئا تزداد سرعة تشكُّل العاصفة وشدتها ومدة استمرارها؛ ليؤدي لعواصف مدمرة وأمطار غزيرة يمكن أن تغمر المدن، حتى تلك البعيدة عن السواحل. ومع هذه العواصف وارتفاع مستويات سطح البحر يمكن للأمواج وتدفق العواصف أن تزيد بشكل كبير من خطر الفيضانات الساحلية.

خلّفت الأعاصير المدارية أضرارا بحدود أكثر من ترليون دولار على الولايات المتحدة، للسنوات 1980- 2023، بمعدل ما يقرب من 23 مليار دولار لكل عاصفة. وقد استوعب دافعو الضرائب النسبة الأكبر من هذه التكلفة.. وهي ليست مجرد عواصف؛ إذ شهدت ولاية “مين” ما يمكن أن يحدث حينما ولّدت عاصفة شتوية عام 2024 موجات مدّ ارتفعت بنحو مترين فوق المعدل الطبيعي؛ مما ملأ الشوارع الساحلية بمياه البحر.. فما الذي يعنيه هذا بالنسبة للإقتصاد؟ 


أضرارٌ متعددة

لا تُعرف لغاية الآن حدود الضرر الاقتصادي المستقبلي المُحتمل الذي سينجم عن ارتفاع مستوى سطح البحر؛ لأن وتيرة ومدى ارتفاع مستوى سطح البحر غير معروفين! تشير التقديرات إلى أن التكاليف الناجمة عن ارتفاع مستوى سطح البحر واندفاع العواصف لوحدها قد تتجاوز 990 مليار دولار هذا القرن؛ مع تقدير تكلفة تدابير التكيف القادرة على خفض هذا المعدل  بنحو 100 مليار دولار فقط. تشمل تلك التقديرات الأضرار المباشرة التي تصيب الممتلكات والبنية التحتية؛ مثل النقل وأنظمة المياه والموانئ. ولا تشمل ذلك التأثيرات على الزراعة، الناجمة عن تسرب المياه المالحة إلى طبقات المياه الجوفية التي تدعم الزراعة. يؤثر ارتفاع درجة حرارة مياه المحيطات أيضا في الحياة البحرية عبر الأحداث المتطرفة؛ المعروفة باسم “موجات الحرارة البحرية”، وكذلك عبر التحولات التدريجية الطويلة الأمد في درجات الحرارة. فخلال الربيع الماضي عاشت ثلث محيطات العالم ظروف موجات الحرارة؛ وكافحت الشعاب المرجانية ضد حدوث التبييض “القصر- bleaching” العالمي الرابع لها منذ بدء السجلات؛ حيث تدفعها درجات الحرارة الدافئة للمحيطات إلى طرد الطحالب التي تعيش وسط أصدافها وتعطي للشعاب المرجانية اللون وتوفر لها الغذاء. وبينما قد تتعافى الشعاب المرجانية البيضاء أحيانا من التبييض؛ فإن نحو نصف الشعاب المرجانية في العالم ماتت منذ العام 1950؛ ويبدو مصير المتبقي منها قاتما بحلول منتصف القرن الحالي. لا تقتصر خسارة الشعاب المرجانية على جمالها فحسب؛ فهي توفر موقعا لاحتضان صغار الاسماك ومناطق تغذية لآلاف من أنواعها. تدفع المياه الدافئة الأسماك الى الهجرة نحو مناطق أكثر برودة؛ وهذا أمر ملحوظ خاصة بالنسبة للأنواع التي تحب الماء البارد مثل الكركند (سرطان البحر)، الذي يهاجر بشكل مطرد شمالا هربا من البحار الدافئة. وقد انخفض عدد الكركند الذي كان صيدهُ رائجا جنوب نيوإنغلاند بشكل ملحوظ.أما خليج ألاسكا، فكاد ارتفاع درجات الحرارة أن يقضي على سرطاناته الثلجية، وتعيَّن إغلاق مصائد للأسماك بلغت قيمتها نحو 270 مليون دولار بالكامل لمدة عامين. كما استمرت موجة حر كبيرة قبالة ساحل المحيط الهادئ على مدى عدة سنوات في العقد الأول من القرن الحالي، وعطلت الصيد من ألاسكا إلى أوريغون. ستستمر حرارة المحيطات المتراكمة وغازات الدفيئة ضمن الغلاف الجوي بالتأثير على درجات حرارة المحيطات لعدة قرون؛ حتى لو خفضت الدول انبعاثاتها من الغازات الدفيئة إلى الصفر بحلول العام 2050 كما هو مأمول. ولذا، ورغم تقلب درجات حرارة المحيطات بين سنة وأخرى؛ فمن المرجح أن يستمر الاتجاه العام بالارتفاع لمدة قرن على الأقل.. لا يوجد صنبور ماء بارد يمكننا تشغيله ببساطة لإعادة درجات حرارة المحيطات بسرعة إلى “طبيعتها”؛ لذلك ينبغي للمجتمعات أن تتكيف بينما يعمل الكوكب بأكمله على إبطاء انبعاثات غازات الدفيئة، لحماية اقتصادات المحيطات في المستقبل.. 


موقع «ذا كونفيرسيشن»