ابراهيم العبادي
يتساءل عراقيون كثر عن اسباب توالي الازمات وتجذرها في بنية النظام السياسي العراقي، فمنذ أول حكومة عراقية جاءت بعد دستور عام 2005، ولغاية الحكومة الحالية، تتوالى الازمات التي تشغل عقل الحكومات والرأي العام على حد سواء، أزمات سياسية ومالية وأمنية، كانت تستهلك الكثير من الوقت لاحتوائها، وربما استدعت تدخلات ووساطات لإصلاح ذات البين، ومنع انهيار العملية السياسية ذاتها، اغلب الازمات السياسية كانت لها تداعيات كبيرة، بعضها بكلف باهظة وخسائر ضخمة، المراقب السياسي للشأن العراقي، كان يلاحظ أن الازمات المالية والأمنية لا ترتبط (كثيرا) بالسلوك السياسي لأفراد المجتمع السياسي أو نخبة السلطة، اذ أكثرها خارجة عن توقع ودراية وادارة هذا المجتمع، بينما كانت الازمات السياسية متعلقة بالسلوك السياسي بشكل مباشر، فبعضها يعود إلى انفضاض تحالفات، وبعضها مرتبط بخصومات ذات طابع شخصي، والآخر سببه الاختلاف على النفوذ والحصص والمغانم، القاسم المشترك للأزمات هو غياب البعد الأخلاقي، قد يقال أن لا ترابط وثيقا بين السياسة والاخلاق، فهما قطبان متنافران، غير أن القيادة والادارة والزعامة، التي تتحرك في المجال العام محكومة بقضايا أخلاقية، عليها التقيد بها لتنال رضا وقبول واستحسان العامة، بغير هذه القضايا الاخلاقية تصبح الممارسة السياسية ضربا من المقامرة، وتكون أقرب إلى التوحش وموت الضمير، أطراف التفاوض وأعضاء المطبخ السياسي في بلادنا غالبا ما يحدث بينهم شروخ وغضب وزعل ومهاترات، تنقض التعهدات والاتفاقات والتوافقات، التي كونت واخرجت حكومات العهد السياسي الجديد. وعندما تفتش عن سبب هذه الشروخ والصراعات والتنافس الشرس، ستجد دائما غياب البعد الاخلاقي، أو لنسمها الحكمة العملية التي تلزم أطراف التعهد السياسي بتعهداتهم.
الاثر السلبي لهذه الأزمات أنها كانت تهدد البرامج والسياسات العامة للحكومة، وصل بعضها إلى حد شل قدرة الحكومة على اتخاذ القرارات، وتعطيل السياسات، واستنزاف الجهد الحكومي، وتأخير عملية التنمية، وإضعاف الانجاز الذي يمثل عامل ثقة المواطن بالعملية السياسية وبالمجتمع السياسي.
تعتمد العملية السياسية على المبادئ الدستورية والقوانين والاعراف السياسية والمبادئ الاخلاقية، اية سلطة في العالم مضطرة إلى التقيد بتلك المبادئ والأعراف والاخلاقيات، وإلا فإنها تفقد ثقة الجمهور، وتبعا لذلك تفقد مشروعيتها السياسية، من هنا نفهم سر مسارعة كبار المسؤولين في حكومات البلدان الديمقراطية إلى تقديم الاستقالة، والاعتذار للشعب عند خرق الأمانة وتجاوز أخلاقيات العمل السياسي.
الأخلاق هي الموجه للسلوك البشري، وهي المعايير المعتمدة لتوصيف عمل القادة السياسيين، والقائد الاخلاقي يمثل قدوة للناس وسلوكه النزيه يعزز سلوك الافراد القويم داخل بنية السلطة، وفي رحاب المجتمع، والمسؤول السياسي والإداري، الذي يجسد سلوكا نزيها وامينا يسهم في استقرار النظام السياسي، ويشيع أخلاق الأمانة والمسؤولية، التي هي مدماك تماسك المجتمع والدولة.
إن المجتمع السياسي يحتاج إلى الثقة بين أفراده، وبينه وبين الجمهور، والثقة تعتمد على مدى التزام السياسي بالمبادئ الأخلاقية، والالتزام بالمبادئ هو ما يساعد على وحدة المجتمع وتماسكه واستقراره، فالاضطراب الاجتماعي محركاته سياسية أو - أخلاقية أو اقتصادية أو دينية - فكرية، وما يشد من أواصر الوحدة الاجتماعية، هو الحكمة السياسية والعقلانية والاخلاقية، التي تمنع وتحتوي على مفاعيل هذه المحركات، عندما تنحط قيم المجتمع السياسي تتراجع قيم الاستقرار ومؤشراته، ويغدو المجتمع هشا وقلقا ومتحفزا للتحرك، السياسي الجيد هو السياسي العاقل الاخلاقي المنضبط بالقوانين والمبادئ الدستورية الحذِر من سهام الجمهور وشكوكه وقسوته.
يمكن لقوى الضبط الاجتماعي أن تتسامح مع أخطاء الأفراد العاديين، لكن اخطاء المجتمع السياسي وافراده غير قابلة للتسامح والغفران. أخلاق السياسة ذات ثقل كبير على متقلدي المسؤوليات والمناصب الحكومية، والعمل العام والخدمة السياسية والاجتماعية، فأن تكون شخصية عامة يعني أن تكون مرآة شفافة، وأن تكون مستعدا للمساءلة، الأخلاق تفرض مبدأ المساءلة والشفافية، والنظام الذي ينبني على أخلاقيات راسخة يحرص على المحاسبة، ويتيح المراقبة لأنهما السبيل الاوحد لمكافحة الفساد، والفساد قرين السلطة ما لم تمنعه الحصانة الأخلاقية للفرد أو خشية القانون والمحاسبة، ولا نجاة لأي نظام سياسي من وحل السقوط وتراجع الثقة وفشل السياسات، وتوالي الأزمات إلا برسوخ الأخلاق.