حربٌ ثقافيَّة تستهدف المنطقة

آراء 2024/09/26
...

  نرمين المفتي

نشرت مقالات عدة، آخرها في الحيز نفسه قبل ثلاث سنوات، أؤكد فيها ضرورة قراءة كتاب (الحرب الباردة الثقافية: السي آي أي وعالم الفن والادب-
‏the cultural cold war: the cia and the world of arts and letters ) للباحثة فرانسيس ستونور سواندرس، الصادر سنة ١٩٩٩ والذي ترجمته إلى العربية الراحلة ناصرة السعدون في سنة ٢٠٠٠ لتشخيص ما يجري في المنطقة ومحاولة ايجاد بعض حل. يوضح الكتاب ومن خلال وثائق عدة تفاصيل الحرب الثقافية التي شنّتها الولايات المتحدة الأمريكية ضد الاتحاد السوفيتي، والتي سارت بالتوازي مع الحرب الباردة السياسية والتي بدأت بين قطبي العالم حينها في 1950 مع تحقيقات لجنة مكارثي مع (اليساريين) في أمريكا وانتهت بانهيار الاتحاد السوفيتي في 1991. ويشير الكتاب إلى أن الحرب الثقافية استهدفت شعوب العالم الغربي ( أمريكا- كندا وأوروبا الغربية) لأبعادهم عن السياسة الأمريكية، والتي كانت تستهدف الكتلة الشرقية وانتهت بنجاح مع انهيار تلك الكتلة، بالرغم من تقدمها العلمي وابتكاراتها وأبحاثها المميزة. كانت ادوات تلك الحرب الفن والادب بمختلف حقولهما، خاصة السينما والموسيقى والتشكيل والروايات.. ويشير الكتاب إلى اسماء مهمة شاركت في هذه الحرب بدون علم أو قصد منها، بمعنى آخر تم استغلالهم أو تضليلهم.
ان قراءة الكتاب الذي تُرجم إلى عشر لغات، كفيلة بالكشف عن حرب ثقافية مماثلة موجهة إلى منطقتنا، ولكن بوسائل حديثة وأقوى في السيطرة على الفكر وتوجيهه، وهي الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي ومنصات عرض الأفلام والمسلسلات والوثائقيات، والتي تدس السم بالعسل. وللمثال وليس الحصر عرضت فضائية عربية إعلانا عن برنامج لاختيار افضل موهبة غنائية، أظهر طالبا فاشلا برمي الكتاب ليشارك في هكذا برامج، وكأنه يقول إن الغناء افضل من الشهادة، خاصة أن أشباه المطربين والمطربات أصبحوا من الأثرياء وهناك أيد خفية-معروفة تعمل على جعلهم (قدوة) في مجتمعاتهم! اذن، هذه الحرب الثقافية الشرسة ضد المنطقة العربية، والتي أصلا تعاني من تخلف علمي، أوصلته إلى الوضع الذي لا تحسد عليه، وأصبحت شعوبها لا تعرف سوى جلد الذات والتفاخر بالماضي البعيد. بدءا لا أنفي بالطبع وجود علماء وباحثين وابتكارات وبراءات اختراع، فضلا عن نشر الكتب في مجالات مختلفة، ولكن ما هي نسبة هذه النشاطات بالمقارنة مع دول العالم؟ تخصص دول العالم المتقدمة علميا في موازناتها السنوية مئات المليارات من الدولارات على الأبحاث العلمية سنويا، وللمثال وليس الحصر، تنفق أمريكا في المتوسط 473،4 والصين 409 مليارات دولار سنويا على أبحاثها العلمية، ودائما لا توجد أية دولة عربية في المراتب الأربعين الاولى. ولو راجعنا الموازنات السنوية العربية، خاصة تلك التي تشير في دستورها إلى ضرورة الأبحاث العلمية وتشجيعها، فلن نجد تخصيصات مادية تلبي ما نصت عليه المواد الدستورية. ويشير مؤشر الابتكار عن تقرير التنافسية العالمي لسنة 2023 والذي تتصدره دول أوروبية، فضلا عن سنغافورة وكوريا الجنوبية، إلى مراتب الدول العربية، وهي الإمارات 31، السعودية 51، قطر 52، الكويت 62، المغرب 67، البحرين 72، مصر 89، اليمن 128 ويأتي العراق في المرتبة 131 قبل الأخيرة، استنادا إلى بحث منشور على الإنترنت في آذار 2024 للباحث ثامر محمود العاني. واذ تشكل القراءة اساس الوعي، فهي كذلك الفعل الذي أوحى به سبحانه إلى رسوله محمد (ص)، فأول ما أنزل عليه "اقرأ باسم ربك الذي خلق"(العلق:1)، ففي تقرير سابق لليونسكو فان الطفل العربي يقرأ 7 دقائق سنويًا، بينما الطفل الأمريكي يقرأ 6 دقائق يوميًا، واضاف التقرير إن معدل ما يقرأه الفرد في أرجاء العالم العربي سنويًا هو ربع صفحة فقط، بينما أصدرت مؤسسة الفكر العربي تقريرًا يفيد بأن متوسط قراءة الفرد الأوروبي يبلغ نحو 200 ساعة سنويًا، بينما لا يتعدى متوسط قراءة المواطن العربي 6 دقائق سنويًا. وأشارت إلى أن المنطقة الغربية تصدر كتابين مقابل 100 كتاب يصدر في أوروبا، وفي المجمل ينشر العالم العربي 1650 كتابا سنويًا، في وقت تنشر فيه الولايات المتحدة 85 ألف كتاب سنويًا. إن الحرب الثقافية المستمرة ضد هذه المنطقة أصبحت تحاصر الجميع عامة والمراهقين والشباب خاصة، ودائما هناك قضية ما تطلق في الغرب لتنشغل به المنطقة العربية بمناقشات وبيانات وتصريحات لفترة ليست قصيرة وقبل ان تنتبه إلى ما يجري، يتم العمل على قضية أخرى وهكذا، حلقة تدور فيها ولا تحاول ان تفلت منها بفعل الأنظمة الحاكمة، والتي لا تهمها سوى استمرارها ومصالحها، وان انتبهت الشعوب فشعارها "العين بصيرة واليد قصيرة"..