النصّ المسرحيّ بين ديكتاتوريًّةِ كريون ومعارضةِ أنتيجونا
عباس منعثر
من هذا المنطلق، ومن منظورِ علمِ السّياسة، قد لا يتيحُ الأدبُ أحياناً سوى نفحةٍ ضئيلةٍ من الهواء، وفي أحيانٍ أخرى ينطلقُ حراً في السّهول الشّاسعة. بذلك، يتحوّلُ الأدبُ، سواء كان ديكتاتورياً أو ديمقراطياً، من مجردِ مرآةٍ لسياساتِ السّلطةِ إلى أداةٍ لتحليلِ بنيةِ القوة، مما يفتحُ أبواباً جديدةً لفهمِ تشابكِ الحقولِ المعرفيةِ وتأثيراتِها المتبادلة.
في النصِّ الدّيمقراطيّ، تتجلى الحريةُ بشكلٍ ناصع، إذ تُعطى الشّخصياتُ فرصتَها بالظّهور، وتعيشُ في فضاءٍ يَحترمُ الاختلافَ، ويتمتعُ كلُّ عنصرٍ من عناصرِ النصِّ بالبحبوحة الكاملة، سواء تعلّقَ الشأنُ بالحوارِ أو الحبكةِ أو الفعلِ الحركيّ. تتصرّفُ العناصرُ كما تشاءُ، والقصةُ تتقدمُ بشكلٍ عفوي دونَ تضييقٍ أو تدخلات. ثمّةَ أيادٍ سريةٌ تعملُ في الخفاءِ لا ينكشفُ تدبيرُها للأمورِ حتى وهي تصوغُ الأشياءَ بسببِ مهارةِ التخفّي. في الاتجاهِ المضاد، ينتهِجُ النصُّ الدّيكتاتوريُّ رؤيةً أحاديةً يكبحُ من خلالِها سلاسةَ الدّلالةِ بتشددٍ صارم. فيه، تُجبرُ الكلماتُ على تشييدِ وجهاتِ نظرٍ ضيقةِ الأفق تتماشى مع السّلطة الحاكمةِ أو نفاقِ المؤلف، حتى وإن تعارضتْ مع غريزتِها أو أعاقتْ نموّها الطبيعي. نتيجةً لذلك، تُحرَّفُ الحبكةُ كي تخدمَ الفكرَ السّائد، وتنكمشُ العوالمُ، وتُمسِكُ السّلطة بكبسةِ الزرّ، مستعينةً بالبروباجندا أو بالدّعاية، من أجلِ بثّ منظورٍ أحادي ينسجم مع منفعةِ الكاتبِ وحلفائهِ الشّموليين.
يسعى النصُّ الدّيمقراطيُّ نحو المساواة في أن يتمتعَ كلُّ فردٍ، كما تفترضُ حقوقُ الإنسانِ، بالعدالةِ الناجزة. هذه القيمُ تنعكسُ في النصِّ بإعطاءِ الفرص المتوازنة لتحقيقِ الإنصافِ والتكافؤ بين جميعِ التوجهاتِ الجدلية. حتى فيما يتصلُ بالحواراتِ، تجتهدُ كلُّ شخصيةٍ على تقديمِ تصوراتِها دونَ جبروتٍ عاطفيّ أو فكريّ في توزيع الأدوار بغيةَ خلقِ بيئةٍ سرديةٍ صحيةٍ لا تميلُ فيها كفّةُ الميزان. علاوةً على ذلك، يتسمُ النصُّ الدّيمقراطيُّ بانتقادِهِ للاستبدادِ وكشفِ الزّيفِ وفضحِ الممارساتِ الإقصائية. إنهُ يُقدّمُ بدائلَ أكثرَ إنسانيةً داخلَ المتنِ الأدبيّ وخارجَه. بالمخالفة، يُفرّقُ النصُّ الدّيكتاتوريُّ بين كائناتِه، فيجنحُ الكاتبُ إلى تفضيلِ ثيماتٍ معينةٍ على حسابِ أُخرى بهيئةِ تبريرٍ للنظامِ القمعيّ أو مداهنةٍ للصّانع. وفي الوقتِ الذي تغدو بعضُ الشّخصياتِ رموزاً للكمالِ والدّماثة، تُصوَّرُ الشّخصياتُ المغضوبِ عليها كتجسيدٍ للشرِّ والضّعفِ المطلق. في هذا الفعلِ الأخرق، يسوقُ المؤلفُ المقولاتِ في اتجاهٍ واحدٍ لا يناسبُ موازينَ القوى نتيجةَ التمييز الطبقيّ ما بين مخلوقاتِ النصّ الدّرامية.
وفي النصِّ الدّيكتاتوريّ، يُحابي الحوارُ التراكمَ البيانيّ على لسانِ شخصيةٍ ما؛ في حين تصمتُ الأفكارُ المناوئة. على سبيلِ المثال، تقومُ الشّخصيةُ "س" باضطهادِ الجمهورِ ورفاقِها الدّراميين من خلالِ طولِ الحوارِ وشراسةِ البلاغة؛ ولا تكادُ الشّخصيةُ "ص" تنطقُ بحرفٍ واحد إلا ويتمّ مقاطعتُها بلا هوادة. توزيعُ الحوارِ أمرٌ بالغُ الأهمية، يُشبهُ توزيعَ الثرواتِ بالتساوي بين أفرادِ البلد، له أثرٌ فادحٌ في بنيةِ وتماسكِ المجتمعِ الدّراميّ. اجترارُ الكلماتِ ذاتها يقعُ أيضاً ضمن هذا السّياق، إذ أنّ التكرارَ العشوائيّ يُفضي إلى إفقارِ اللغة وإضعافِ قدرتِها على التشكّل الهندسيّ والتكثيفِ الأدبي.
النصُّ المسرحيُّ الدّيمقراطيُّ يَستخدمُ الفنَّ لتحفيزِ التفكيرِ النقديّ في الشّأنِ العام والخاصّ عبر تقديمِ مكابداتٍ صادقة طبقاً لما تُمليهِ دراما الحياة. وباعتبارِها كائناتٍ مجازية، تنتقدُ الشّخصياتُ المسرحيةُ بعضَها بعضاً وتفكّرُ بلا رقيبٍ ولا خوف، وإن كان بمغايرةٍ لرؤيةِ المؤلفِ نفسهِ أو بمعارضةٍ لأطروحاتِه. هذا النوعُ من النصوصِ يفتحُ المجالَ للنقاشِ ويسمحُ بتبادلِ الأفكار. في مقابلِ ذلك، يسعى النصُّ المسرحيُّ الدّيكتاتوريُّ إلى ترسيخِ الرؤيةِ السياسيةِ للمؤلفِ دونَ مجالٍ للمُباينة. ناطقةً بشفاهٍ غريبةٍ، سيدفعُ الكاتبُ شخصياتِهِ إلى تبّني وجهةَ نظرٍ واحدة فقط، مع إغلاقِ المدى أمامَ أيّ شكلٍ من أشكالِ النقد. يُرّكِزُ النصُّ الدّيكتاتوريُّ على إقرارِ الأهدافِ وترسيخِ السّائدِ بصرفِ النظرِ عن هنّاتهِ وضعفِهِ أو تهالكِهِ أمامَ النظرةِ الثاقبة. النتيجة أن يتكلّسَ الحوارُ وينتفي التبادلُ المعرفيُّ وتنهار واحدةٌ من أسسِ النصِّ المسرحيّ كمنبرٍ لاختلاطِ اللغات.
خارجياً، تُعَدُّ علاقةُ النصِّ بالجمهورِ من أبرزِ العواملِ التي تَقترحُ ما إذا كان النصُّ سيُصنَّفُ كديمقراطيّ منفتح أو ديكتاتوريّ منغلِق. تتدافعُ الكلماتُ، في النصِّ الدّيمقراطيّ، لغرضِ الاحتكاكِ النشطِ مع الجمهور، محفزةً إياهُ على التفكيرِ والمشاركةِ من زوايا استثنائية. يَتركُ النصُّ فجواتٍ يملأها القارئ كمشاركٍ فعّالٍ في الطقسِ بِناءً على متبنياتِهِ ولا يُقادَ الى المعنى كالسّائرِ في نومِه. من جهةٍ مغايرة، يُستخدمُ الفنُّ، في النصِّ الدّيكتاتوريّ، كوسيلةٍ للتلقينِ وغسلِ الأدمغةِ والتلاعبِ العاطفيّ. حينها، تلجأ الفكرةُ الى الظهورِ بكيفياتٍ مضلِلةٍ تتعطلُ فيها الإرادةُ الحرّةُ والاختيار، لأنَّ كلَّ طريقٍ سيؤدي إلى روما.
تتمثلُ الدّيكتاتوريةُ في مؤلفٍ يوّجهُ كلّ تفاصيلِ العملِ في نظامٍ موّحد، كما تحتكرُ الأنظمةُ القمعيةُ الحكمَ بقبضةِ فردٍ أو نخبة. يغيبُ، في هذا النوعِ من النصوصِ، التزاحمُ الحقيقيُّ بينَ الأجندات، لأنّ أفعالَ النصّ اجباريةٌ بصورةٍ قاطعةٍ، ولا يُسمحُ لأيّ فكرةٍ مشاكسةٍ أن تبرز، تماماً كما يقمعُ الطغيانُ أضدادَهُ بالإكراهِ أو بالتسوياتِ النافعة. على النقيضِ، يدعو النصُّ الدّيمقراطيُّ الى المشاركةِ الجماعية، ويلعبُ المؤلفُ دورَ الزّعيمِ الدّيمقراطيّ بنزاهةٍ وشفافية. فالشّخصياتُ، مثل الرّعيةِ، هي صاحبةُ الكلمةِ العليا في صنعِ القرار وتحمّلِ المسؤولية، وصولاً إلى نصٍّ سَوي تنمو فيهِ الوقائعُ كما يكبرُ الإنسان، فيستحيلُ الإنشاءُ إلى ساحةٍ للحوارِ مثلما تكونُ الدّيمقراطيةُ ساحةً للتنافسِ بين المرشحين. في حين ينغلقُ النصُّ الدّيكتاتوريّ على نفسهِ، وتُستبعَدُ أيّةُ محاولاتٍ للمراجعة، فيسقطُ في متاهةِ الأحاديةِ والغطرسة. عندئذٍ، تكون الشّخصياتُ مكبلّةً، والحبكةُ متوجهةً لخدمةِ السيّد، والحوارُ نرجسي، والرّموزُ مستخدمةً لدعمِ السّلطةِ، والزّمانُ والمكانُ مغلولينِ تبعاً لغيابِ التفسير. أما النصّ الدّيمقراطيّ فيُعطي للشّخصياتِ حريةً كاملة، ويُضفي عليها أبعاداً اضافيةً ويجعلُها تتصرفُ باستقلالية، ويفتحُ الحبكةَ على احتمالاتٍ واسعة، ويتيحُ للحوارِ تعددَّ الأصوات، وللرّموزِ عمقاً في التأويل، كما يُضفي على الزّمان والمكان مرونةً تسمحُ بتداخلِ وجهاتِ النظرِ وخلخلةِ هدوءِ القارئ.
من منظورٍ مختلفٍ تماماً، لا يكونُ تصنيفُ النصوصِ المسرحيةِ يسيراً على الدّوامِ جرّاءَ تفاوتِها وتعقيدِها بحيث تهربُ من الإطارِ الثابت. قد تتآكلُ الحدودُ في بعضِ النصوصِ وتلتبسُ الأساليبُ، وتتجاورُ عناصرُ ديمقراطية وأخرى ديكتاتورية، مما يجعلُ من الصّعبِ القضاء على جميعِ الفروقاتِ المحتملة بينَها. إنَّ تبويبَ النصوصِ بدقةٍ ضمن نوعٍ واحدٍ أو نوعينِ أمرٌ عسيرُ المنالِ، حتى في أشدِّها انتماءً إلى المباشرةِ والوضوح. لكن، بصرفِ النظرِ عن تلكَ الصّعوباتِ، تحملُ هذه التصنيفاتُ شيئاً من الاعتبارِ، فقد تُزوّدُ المؤلفَ بالمعرفةِ الكافيةِ للتعاملِ بوعي وحساسيةٍ مع نصوصِهِ، نظراً لأن كلَّ قرارٍ، مهما بدا صغيراً، يكشفُ عن أبعادٍ غير متوقعةٍ ويُحدِثُ تأثيراً جوهرياً في تجاوبِ النّصوصِ مع الحريةِ أو خضوعِها للقيود.