باقر صاحب
تأتي مقالتنا هذه، في ضوء اهتمامنا بالشعراء المبدعين، الذين رحلوا مبكراً، بسيرهم ومنجزهم الإبداعي، لنستمد من تلك السير والإنجازات محاولة الإجابة عن سؤال، يتعلق بأن أولئك الراحلين، ماذا سيضيفون لمنجزهم الإبداعي خاصة، وللمشهد الشعري عامة، إن ظلّوا على قيد الحياة. ومن هؤلاء، على سبيل المثال، الشاعر العراقي الراحل بدر شاكر السياب" 1926 - 1964 " الذي حمل لواء الريادة في الشعر العربي المعاصر، عبر نقلةٍ نوعيّةٍ في الشكل والمضمون، من العمود الكلاسيكي إلى الشعر الحر، وكان غزير الإنتاج على نحوٍ كبير، في فترةٍ زمنيّةٍ لا تتجاوز عشرين عاماً من عمره القصير. لقد أدى المرض وفقر الحال إلى الإسراع في رحيله المبكر.
ولم يُقيَّم السياب تقييماً يناسب عبقريَّته الشعرية، في حياته، بل جرتِ الإشادة بهِ كأحّد أعلام الشعر الحديث، بعد رحيله. فطُبعت أعماله عشرات المرّات، وكتب النقّاد والدارسون عشرات الدراسات والأطروحات الأكاديمية عنه.
وهنا نقول إنّه لو استمرّ به العمر، وهو مُعافى من المرض، ويعيش في بحبوحةٍ مادّيّة، لتَجاوزَ ما كتبهُ، ولرَفدنا بإبداعٍ ثرٍّ منبعهُ موهبتهُ الشعريَّةُ الكبيرة.
نعود إلى موضوعتنا عن الشاعر سبتي، الذي يُعدُّ أحد أبرز شعراء الجيل السبعيني في العراق، حيث خاض مع نظرائه زاهر الجيزاني وخزعل الماجدي ورعد عبد القادر سجالاتٍ طويلةً في قضية الحداثة الشعرية. ولم يُعرف عن سبتي كتابته لشعر الحرب الذي راج في أثناء الحرب العراقية الايرانية، وظل على استقلاليته السياسية حتى بعد التغيير الذي حدث في العراق عام 2003.
وُلد كمال سبتي في مدينة الناصرية، جنوبي العاصمة العراقية بغداد، عام 1952، كان الراحل مهتمّاً بالسينما، لذا درسَ في معهد الفنون الجميلة – بغداد/ فرع الإخراج السينمائي، وبعد تخرّجه منه، أكملَ دراسة السينما في كليّة الفنون الجميلة، وفُصلَ منها، وسيقَ إلى الخدمة العسكرية. هربَ من العراق عام 1989. درسَ في كلية الفلسفة والآداب - جامعة مدريد المستقلة، في إسبانيا، ومن ثمّ أقام في هولندا منذ عام 1997 ولغاية رحيله. أصدر المجموعات التالية "وردة البحر- 1980، و"ظلّ شيءٍ ما- 1983، وحكيمٌ بلا مدن- 1986، ومتحفٌ لبقايا العائلة - 1989، وآخرُ المدن المقدسة- 1993، "آخرونَ.. قبل هذا الوقت- 2002، بريدٌ عاجلٌ للموتى 2004، وصبراً، قالت الطبائع الأربع – 2006".
رحل مبكراً في منفاه الهولندي البارد في عام 2006، عن عمر يناهز 54 عاماً. وهناك يقينٌ نسبيٌّ لدينا، بأنَّ سبتي لو امتدَّ به العمر، لحقّقَ إضافاتٍ جديدةً للمشهد الشعري العراقي، إذ كان غزير الإنتاج على نحوٍ لا يوصف، لكنّه رحل مبكّراً في منفاه الهولندي البارد في عام 2006، عن عمرٍ يناهز 54 عاماً.
قصيدة المعنى
يستنتجُ الراصدُ الدقيقُ لمنجز سبتي الشعري بأنَّ لغتهُ، وهي ما يختلفُ بها عن مجايليه، بسيطةٌ، لديه اهتمامٌ ملحوظٌ بالمعنى، حريصٌ على إيصالِ ما يريد أن يقولَ إلى القارئ. ونحن نرى في ذلك احتراماً من الشاعر للقارئ، وليس من مهمةِ الشاعر أو شغلهِ الشاغل الإيغالُ في الغموض إلى درجة الافتعال، بحيث يُبهمُ على القارئ ما أرادَ في نصّهِ، وإدخالهِ في متاهةِ الصور الشعرية المُبهمة والعبارات المكتظّة بما غَمُضَ من الألفاظ. وعن ذلك يقول سبتي" قصيدتي هي قصيدة معنى، وهي تعادي اللعب اللغويّ البارد. كبُّ القاموس على الورق لعبٌ لا يعنيني ولا يعني عذابي وشتاتي في هذا العالم. اللعب اللغويّ والكتابة الشعرية الذهنية الخالصة التي يجاهر أصحابها في أنّها شعرٌ عالٍ أيضاً، يلتقيان في أنّهما مُنتجان معاً بعَصبٍ بارد".
كتابة الشعر والنثر
وقد أشّر نقاد ودارسون لشعر سبتي، ومنهم الناقد والأكاديمي فيصل عبد الوهاب حيدر أنّ المجموعة الأخيرة له" صبراً، أيتها الطبائع الأربع" كانت شعراً موزوناً، يقول عبد الوهاب حيدر بأنّ سبتي حينما سُئل عن هذا الارتداد من النثرِ إلى الوزن قال" أنا أكتب كما تعرف قصيدةً طويلةً غير موزونة، وأشتغل فيها وقتاً طويلاً. لماذا لا أكتب قصيدةً موزونةً قصيرةً ما دام شغلي غير الموزون يستغرق وقتاً طويلاً؟ وفعلتُها. كلُّ شعري الموزون هو امتدادٌ لمشاغلي في القصيدةِ غير الموزونة فدخلتُ به إلى التراثِ وكتب التفاسير والسير الدينية وكتب الصحاح والفقه وما إلى ذلك".
هواجسُ الموتِ والحنينِ إلى الوطن
يذكر الناقد عبد الكريم كاظم عن سبتي في مقالةٍ مهمةٍ جديرةٍ بالمراجعة، بأنَّ الموتَ كان له حضورٌ كبيرٌ في متونِ نصوصه، ساعياً إلى قهرِ الموت بغزارةِ الكتابة، وكأنّ الراحل كان يهجسُ رحيلهُ المبكّر، "للموت في أشكاله المختلفة حضورٌ واسعٌ في القصيدة، لذلك ظلَّ كمال سبتي، رغم تعاقب السنين، شاعراً منتجاً مبدعاً لا يعرف الانقطاع ينهي قصيدةً أو مقالةً ليبدأ بأخرى كتلميذٍ مواظبٍ لا يقوى على فراقِ الحبرِ والورق، ومثلما أدمن العزلة في أيّامه الأخيرة وسكن فيها أدمن الكتابة".
الملمح المهم في تجربة الراحل، هو حنين طائر المنافي كمال سبتي إلى بلده العراق، ومدينته الناصرية، تحدّث الناقد عبد الكريم كاظم عن هذا بكلّ تأثّر، يريدُ القول إنَّ هاجس الموت المبكّر، قد غرسهُ في وجدانِ الشاعر رحيلهُ في المنافي، فيقول" بقي متشبثاً بالقصيدة حتى الرمق الأخير، يمضي بها بعيداً فتمضي به إلى البلد البعيد القريب من غير حاجةٍ إلى دليلٍ أو وسيطٍ فقد حفظ الدرب بخلاف ما يُشاع عن المنفى من تهمة الرخاء والنسيان والنعيم، ولفرط تردّده على البلاد، من خلال القصيدة، صباح مساء كان يقرأ على مسامعنا المزامير ويجاهر بأنّ العراق هو بلد الشعر".
مكانةٌ شعريَّةٌ كبيرة
لا يعدم الدارس لشعريّة سبتي أن يجد إشاداتٍ كبيرةً بشعريّته، ليس على مستوى الشعرِ العراقي فحسب، بل عربيّاً أيضاً، الناقد ياسين النصير، في سياق حديثه عن منجز سبتي، أشار إلى أنّه في مجموعته "آخرون قبل هذا الوقت" أضاف شيئاً مهماً في رصيد الكتابة العربية، وسجّل للشعر العراقي خطوةً مهمةً في فتح مغاليق الشعريّة العربيّة، حيث كانت الشعريّة العراقيّة دائما قائدةً للحداثة العربية إلى مفاوز جديدة". وأنّ تلك المجموعة المُشار إليها فيها "اتّضاحٌ مهمٌّ لأفق ما يُكتب ومعايشةٌ دالّةٌ على وعي هذا الشاعر ورصيده اللغوي واطّلاعه الهائل على التراث العربي".
وذكر الناقد صالح هويدي بأنّ سبتي من أوائل الشعراء، الذين أسّسوا لما عُرف بمُصطلح النص المفتوح والقصيدة السردية، ليس في أوائل أطوارهما، وإنّما في شكليهما الناضجين. ويذكر هويدي أيضاً بأنَّ سبتي كان متمكّناً من لغته، كما كان قارئاً نهماً للتراث العربي والإشراقي منه خاصّةً، ومطّلعاً بشكلٍ واسعٍ على الفلسفة الغربية، يدلُّ على ذلك شعره المليءُ بالحواشي والاقتباسات والإحالات، وهي بذلك شاهدٌ محسوسٌ على خزين قراءاته في الفكرية والفلسفية والميثولوجية.