الجمال الصناعي والفطري

منصة 2024/09/30
...

 بسمة العبيدي

التجميل، من الفنون القديمة التي تطورت من مجرد تزيين الجسد إلى أداة رئيسة للتعبير عن الهوية الشخصية والتكيّف مع المجتمعات الحديثة. إذ أصبحت عمليات الجراحة التجميليّة اليوم جزءاً من صناعة ضخمة تتطلب نفقات مالية كبيرة. فمثلت ظاهرة في واقعها "استجابة" لعولمة سادت المجتمعات، وبالخصوص الشرقية منها، حيث تتغذى على أمنيات ورغبات الأفراد في تحقيق المثالية المطلوبة في الشكل وتفاصيل الجسم وفقاً لرغبات الجمهور.
وفي العصر الحالي، أصبحت معايير الجمال تخضع بشكل رئيس لتأثير الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي. فما يعرضه التلفاز،  ومنصات التواصل الاجتماعي من صور لمشاهير وتقليعات، يخلق معياراً جماليّاً يكاد يكون موحداً ويؤثر بشكل فاعل في وعي الناس وتصوراتهم وقناعاتهم حول الجمال، وكيفيّة التصرف في ملامح الوجه أو الأجزاء الأخرى من هيأة الشخص ذاته.
هذا المعيار ليس فقط مرتبطاً بالاتجاهات السائدة في مجتمعات الفن والمشاهير ونجوم الإعلام والسياسة، بل يصبح أيضاً معياراً يسعى الكثيرون لتقليده بما في ذلك "الرجال"، فمن خلال ما يرونه من "فاشنيستات" وممثلات على منصات الترويج والتفاعل والتسويق في المحتوى، وحضور المناسبات ذات الطابع الاحتفالي، يكون التأثير متبادلاً ويولد انطباعات تعكسها ردود أفعال ظاهرة أو محدودة في مظهرها. مما يدفع النساء إلى تعديل مظهرهن ليتناسب مع ما يُعجب به الرجال ويعتبرونه جميلاً. هذا التأثير الإعلامي يسهم في خلق ضغط كبير على النساء لتغيير أشكالهن بما يتماشى مع المعايير السائدة لما يعتبروه مبرراً لتحقيق المقبوليّة والإعجاب بالشكل والهيأة، الأمر الذي يؤدي إلى تقليد وتكرار المظاهر بدلاً من الحفاظ على الفطري والطبيعي الخالي من لمسات التغيير والإضافات الجراحيّة.
أصبح التجميل ضرورة لدى الكثيرين لمواكبة ما يعد "معياراً" للجمال الذي يعد الإعلام ووسائل التواصل أقوى أدواته، لما تتميز الأخيرة فيه من سعة وسرعة في الانتشار والوصول إلى طيف واسع من المتابعين، فالصور المثالية التي تُعرض على هذه المنصات تشكل مصدر إلهام للمتلقي المتابع بشغف وفضول كبير لأخبار ومتغيرات من تعرضهم وسائل الإعلام وتحقق لهم ملايين المشاهدات فأصبحوا مشاهير نتيجة تلك المتابعة والاهتمام، الأمر الذي يؤدي إلى تعزيز ضغط اجتماعي لتغيير المظهر أو تحسينه وفقاً لهذه المعايير.
يسعى الكثيرون إلى تحسين صورتهم الشخصية وزيادة الثقة بالنفس عبر التجميل، معتقدين أن تغيير المظهر الخارجي سيعزز جمالهم الداخلي ويزيد من فرصهم في الحياة الاجتماعية والمهنية، وإدامة زخم القبول والنجاح نتيجة ذلك التغيير.
وبالعادة، يتغذى قطاع التجميل على الثقافة الاستهلاكية التي تروّج لفكرة أن الجمال يمكن شراؤه، مما يدفع الناس لإنفاق مبالغ كبيرة على المنتجات والخدمات التجميليّة.
ولكن التركيز المفرط على الشكل الخارجي قد يؤدي إلى اضطرابات نفسيّة مثل انعدام الثقة بالنفس والاكتئاب. قد يصبح البعض مدمناً على التجميل، مما يؤثر سلباً في صحتهم النفسيّة وعلاقاتهم الاجتماعيّة.
وقد تحمل عمليات التجميل الجراحيّة مخاطر صحية جسيمة، مثل الالتهابات والتشوهات الدائمة. كما تحتوي الكثير من منتجات التجميل على مواد كيميائية قد تكون ضارة بالصحة على المدى الطويل. الجمال المثالي هو موضوع طويل ومعقد، يختلف من شخص لآخر. اليوم، تتجه الزاوية التي يُنظر منها إلى الجمال إلى موضع واحد بسبب التأثير الإعلامي والتجاري. لقد أدى هذا إلى تحول الجمال الطبيعي إلى صناعة متكلفة لجمال مزعوم يتبناه الجميع، مما يسبب تقليداً مفرطاً يجعل المرأة تبدو كنسخة مكررة لنساء أخريات يشاهدهن الرجال في حياتهم اليوميّة. في النهاية، للتجميل وعملياته الجراحية أو لوازمه من مواد مصنعه ومسوقه بالمليارات، من يدافع على أهميته في تعزيز شكل المرأة وما تجنيه من مكتسبات نفسية واقتصادية واجتماعية، فأصحاب هذا الرأي يؤكدون على أن الجمال يمكن أن تعززه المنجزات الطبيّة ومبتكرات هذه الصناعة، بينما يوجد من يختلف مع هذا التوجه باعتبار أن الجمال طبيعي وجد مع وجود البشر ولا يمكن التصرف بالإبداع الرباني الذي أبدع في إيجاد صورة الإنسان الحَسِنة، وهذا الإنسان مؤتمن على حواسه وأعضائه، وأن التغيير الذي يجرى تحت مسمّى عمليات التجميل ما هو إلا تطاول وتلاعب في خلق الخالق وإبداعه وإعجازه، وبين الوجهتين ومن يمثلهما لا بدَّ أن تكون المجتمعات واعية للآثار السلبيّة المحتملة التي قد تنجم عن التوجه المفرط نحو عمليات التجميل. وينقل أصحاب الفكر الجمالي ومدارس الأدب والفن، بأن الجمال الحقيقي يجب أن ينبع من داخل الإنسان، وليس من خلال استنساخ معايير غير واقعية قد تضر بالنفس البشريّة وتؤثر في وجودها ورفاهيتها.