الحدود المتاخمة بين الأمان والخطر

منصة 2024/10/07
...

 أ.م.د.خالد الوائلي


أشار فرويد إلى العصاب الصدمي في المدة الأخيرة من حياته وفسر العصابات على أنها تعود أصلا إلى العقد النفسيَّة الطفوليّة، وأن مبدأ العصاب الصدمي الناجم عن صدمة حديثة العهد "ولا علاقة لها بالطفولة" يتعارض نظريا مع طروحات التحليل النفسي على الرغم من أن سيغموند فرويد أكد بوجود هذه العصابات وسماها "العصابات الراهنة"، إلا أنه عدّها شواذ القاعدة التحليلية وغير قابلة للشفاء بالعلاج التحليلي الذي يركز جهوده على العقد الطفوليَّة.

في حين يستند المنظور المعرفي إلى الافتراض بأن الاضطرابات النفسيَّة ناجمة عن تفكير غير عقلاني، فيما يتعلق بالذات وأحداث الحياة والعالم بشكل عام.

وعلى هذا الافتراض وضع "فوا وزملاؤه نظرية معرفية تشير إلى أن الأحداث الصدمية تهدد افتراضاتنا العادية أو السّوية بخصوص مفهومنا للأمان وما هو آمن، فتصبح الحدود بين الأمان والخطرغير واضحة، ويقود إلى تكوين بنيّة كبيرة للخوف هذه في الذاكرة بعيدة المدى. وأن الافراد الذين لديهم بنية الخوف يمرون بخبرة نقص القدرة على التنبؤ، وضعف السيطرة على حياتهم، وهذان العاملان هما السبب في حصول مستويات عالية من القلق.

ويرى هورويتز أن الميكانزم الاساسي للعمليات الإدراكية الإنسانية هو "الميل للكمال" الذي يشير إلى أن العقل يستمر بمعالجة المعلومات الجديدة المهمة، حتى يتغير الموقف والواقع بحيث يصل للتطابق، ولكن الحدث الصدمي الذي يتعرض له الفرد يكون متمثلا ومتكاملا بنجاح في داخل المخطط الادراكي الموجود، فإن العناصر النفسيَّة للحدث الصدمي ستبقى في مخزن الذاكرة النشطة، وتستثير تمثيلاً فكرياً وتحليلات للأحداث الصدمية على كل المستويات الوظيفية الادراكية التي تنشأ دوريا في داخل الشعور، وتخيلات غير مسيطر عليها تسلطية، واستثارة انفعالية عن الحدث الصدمي.

أما في المنظور الاجتماعي فترى سوزان سليمان بأن الدعم الاجتماعي وتماسك شبكة العلاقات الاجتماعية واتساعها يشكل سياجا يحمي الفرد، ويمنع بعض التأزم المرتبط بضغوط الكارثة، ويتيح للفرد الفرصة لتخطي الأزمة         .

والصدمة النفسيَّة في الديانات مفهوم له مؤشرات عديدة، إذ يفسر الدين الإسلامي الصدمة النفسيّة واضطرابها وفقاً لتسميات علم النفس الاكلينيكي والصّحة النفسيَّة، وهي المصائب والابتلاءات والكروب والهموم الناتجة عنها، ولا يوجد للتفسير الإسلامي نظير في أي من الفلسفات العالمية حتى وإن توحدت جميعاً، فالإيمان بالقضاء والقدر "خيره وشره"، والموت، والمصائب هو ايمان حق يجب التسليم به وتقبله، قال تعإلى (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ).

والابتلاء وسيلة لغاية عظيمة إذ هو امتحان يستهدف به الله "سبحانه وتعإلى" خيراً فاضلاً، ويعرف عمل عبده المبتلى، وهو طريق للصّحة النفسيَّة، إذ به تستقيم حال النفس، وتتخلص من شوائب الاهواء، وتستقيم خوفاً من الله، وطمعاً في رحمته.

والمؤمن الصادق يؤمن بالقضاء والقدر خيره وشره، وإيمانه هذا يجنبه الاصابة بالأمراض النفسيّة ولا سيما الناشئة عن المصائب والكروب، والمؤمن يقف هذا الموقف، لأنه يعلم أن ما قدره الله على الإنسان ليس عبثا، وأن المصائب التي تحل به هي في حقيقة الأمر، دروس يلقيها "العليم الخبير" على بني الإنسان، فتهذب نفوسهم ويذهب صدى قلوبهم.

حين نظر "فوا" إلى الأحداث الصدمية على أنها تهدد افتراضات الإنسان بخصوص أمنه الشخصي، فأنه ينشأ بذلك عدم وضوح في الحدود المتاخمة بين الأمان والخطر، وهنا يتفوق هاجس الخطر على هاجس الأمان بصورة شبه أكيدة في داخل الإنسان مما يولد الخوف بنسبة كبيرة في الذاكرة بعيدة المدى، الأمر الذي يؤدي إلى أن تولد حالة من نقص القدرة على التنبؤ وضعف السيطرة على الاستجابات للمثيرات البيئة وهذا هو بعينه ما ينجم عنه القلق ذو المستوى المتفاقم إلى أبعد الحدود.

هذه الصرامة في بيئة الخوف التي يعيش فيها الإنسان ويترعرع وَلَدت صرامة مقابلة في الضغوط الصدمية المتقابلة مع كمية الخوف المتفاقم حتى مع التطور التكنولوجي الهائل في العالم، والذي من المفترض أن يجعل العالم أكثر أمانا إلا أنه ويا للدهشة جعله أكثر رعباً ! هنا ظهرت سلوكيات جديدة بعد انزلاق الأمن الشخصي إلى حافة الخوف والصدمة المتتابعتين والمتعاكسي الأدوار في بعض الحالات ترتب عليه اللجوء إلى المكون والمذهب والهوية الفرعية والقبيلة والعشيرة وصولاً إلى الجماعة المسلحة غير القانونية، والذي يتحمل الكثير من الاسقاطات النفسيَّة ويتسع لجميع تناقضات المشهد النفسي الصدمي ويسمح للانفعالات بالتفريغ التام وبأعلى المستويات. أما القانون والعدالة والبنية الاجتماعية التكوينية، فلا اعتبار لها في هذا الجو العام المرتبط بالضغوط الصدمية، ولكن الأمر الإيجابي بهذه الأحداث الصدمية أنها شكلت وبمرور الوقت واستناداً إلى قانون الاقتران الشرطي بين المثير والاستجابة الذي نادى بافلوف ووصولاً بهذا التكرار إلى مرحلة العتبة النفسيَّة التي تشبه إلى حد بعيد قانون الاشباع في الكيمياء الفيزيائية، والذي يعني أن النقطة التي لا يصبح محلول أية مادة قادرا ًعلى إذابة المزيد منها وتسمى هذه النقطة بالتشبع، وتعتمد قيمتها على درجة الحرارة والطبيعة الكيميائية للمادة، وكذلك ينطبق هذا القانون المادي على القانون المعنوي "النفسي" حيث تعمل توالي الأحداث الصدمية على الفرد إلى وصوله عتبة الاشباع، لدرجة معينة يضمحل تأثيرها ويتلاشى وتصبح الأحداث الصدمية غير مؤثرة سلباً أم أيجاباً في تغير حالة الفرد وخصوصاً إذا ارتبط بمنظومة مفاهيمية عالية التوجيه "وجودة في عالمنا اليوم بفضل الانفتاح الثقافي الهائل الذي احدثته الثورة التقنية للاتصالات" بحيث تؤثر أيجابياً في الصمود النفسي وتزوده بجرعات مقننة وعالية الادراك والتفاعل تصل بالفرد أخيراً إلى مرحلة الصلابة النفسيَّة التي يكون فيها مهيئاً لتولي مهام جسام أكبر حجماً وأكثر تأثيراً.