فضل الاكتئاب في الفنون والآداب

منصة 2024/10/10
...


الأدب هو انعكاسٌ للمشاعر الإنسانيَّة المختلفة التي تعبر عن مواقف الحياة بما تزخر به من أحداثٍ وصراعاتٍ وأخبارٍ سارة، وأخرى أليمة، وإحدى أهم هذه الخبرات وأعمقها أثراً في النفوس هي حالة الاكتئاب التي تنتاب الإنسان منذ بدء الخليقة وحتى يومنا هذا.

الاكتئاب في تراث القدماء
إذا تتبعنا الفكر الإنساني منذ أقدم العصور نجد الاكتئاب يشيع في ثناياه حتى ليخيل إلى المرء أنّ الكآبة واليأس يرتبطان بالإنسان منذ يولدُ وحتى يستقرُّ في قبره. ففي ما وصل إلينا من التراث الحضاري لمصر القديمة نجد أنّ أساطيرهم تعبّرُ عن مآسٍ متنوعة. فقصة الصراع بين الخير والشر التي ترمز لها أسطورة «إيزيس وأوزوريس»، وارتباط نهر النيل بالدموع المنهمرة، أرست منذ ذلك الحين طبائع اكتئابيَّة راسخة لا تزال قائمة في مصر حتى يومنا هذا حيث يشترك الشعب بأكمله في تقاليد عميقة للأحزان، بينما لا يوجد للأفراح لدينا عاداتٌ بنفس العمق والاتساع. وفي بلاد ما بين النهرين،عراقنا، يشير أقدم لوحٍ كتابي إلى أنَّ ملحمة جلجامش شهدت أول إشارة إلى الحزن من خلال رؤية جلجامش لجسد صديقه إنكيدو الذي مات بصورة محزنة، فيقول له «الآن، أي نوم هذا الذي غلبك واستولى عليك؟»، وطوال سبعة أيام يظل ينتف شعره ويمزّق ملابسه هائماً على وجهه خارج أسوار مدينة أوروك
السومريَّة.

الاكتئاب في آداب الغرب
في مسرحيَّة (هاملت) الخالدة، جسّد «شكسبير» الاكتئاب في شخصيَّة «هاملت» وكيف يصف يأسه من كل العالم، وكيف فقد الاستمتاع بكلّ متع ومباهج الحياة.
ارتبط الاكتئاب بالمثاليَّة لدى العديد من الأدباء والكتاب، ومنهم «شوبنهاور» الألماني الذي حدثت في وقته واقعة الانتحار الجماعي في ألمانيا. ويذكر لنا التأريخ أنّ العديد من العظماء والمبدعين في الفن والأدب والسياسة قد اتصفوا بما يشبه الاكتئاب النفسي الذي كان يبدو عليهم في أحوالٍ من التطرف تصل إلى الجنون أحياناً، من هؤلاء «ابن الرومي» الشاعر العربي المعروف الذي اشتهر بالتشاؤم وتوقع النحس، وشاعر فرنسا «بودلير» الذي كانت تنتابه الكآبة
باستمرار.
وفي السياسة هناك «تشرشل» رئيس وزراء بريطانيا إبان الحرب العظمى الأخيرة حيث كان يعاني من الاكتئاب في أواخر أيامه وكان يتوهم عند وفاته أنّه مطاردٌ من كلب أسود. و»فان كوخ» الذي كانت تنتابه حالة اضطراب نفسي شديدٍ أوصلته الى أنْ يقطع أذنه اليسرى ليهديها إلى امرأة، وحملت إحدى أشهر لوحاته عنوان «المكتئب»، التي تشكل مع لوحة (الصرخة) للفنان النرويجي (إدفارت مونك) أكثر اللوحات الفنيَّة شهرة في تجسيد الاكتئاب.
أما في الشعر العربي فإنَّ الاكتئاب فيه تحولٌ في خيال الشاعر إلى تجربة شعوريَّة توحي إليه بأشجى الأشعار، ولعلَّ من فضل المصائب على الإنسان انّها تعيده بالألم إلى إنسانيته فإذا به يتحول إلى قيثارة تعزف لحناً يفيض بالشجن. وتزدحم كتب الشعر العربي بأشعارٍ تعبر عن هذه التجربة في مناسبات مختلفة.. إليك نماذج منها:
قال جرير يبكي زوجته:
لولا الحياء لها جني استعبار *** ولزرت قبرك والحبيب يزار
ورثى مالك بن الريب نفسه وهو يحتضر:
ألا ليت شعري هل ابيتن ليلة *** بجنب الغضا أزجى القلاص النواجيا
فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه *** وليت الغضا ماشي الركاب لياليا
فهو يتمنى لو تتأخر وفاته ليعود إلى أهله ووطنه ولا تنتهي حياته بهذه الصورة.
ونختمها بقول أبي العتاهيَّة يبكي الشباب ويتمنى لو تعود أيامه:
بكيت على الشباب بدمع عيني ** فلم يغن البكاء ولا النحيب
ألا ليت الشباب يعود يوماً ** فأخبره بما فعل المشيب
إنَّ ما شهده العراقيون في الأربعين سنة الماضية من حالات اكتئاب، لم تحصل لأي شعبٍ معاصرٍ، فأين منها أدباء وفنانو العراق؟ هل استطاعوا تجسيدها بما يعكس وجعهم؟ وهل وظفوا فيها التفاؤل بأنَّ المستقبل لهم؟
تساؤل من (الصباح) لهم، وليتهم أجابوا أدباً وفناً.