المقاهي التراثيَّة في السماوة.. ذاكرة أرشيفيَّة لسجلٍ حافلٍ بالأحداث

ريبورتاج 2024/10/14
...

 نافع الناجي

يمكن إطلاق مصطلح (المتحف- المقهى) على بعض المقاهي العتيقة في مدينة السماوة، حيث تزدحم أروقتها وجدرانها بسجلٍ حافل بالذكريات والأحداث والصور، وتجاوز عمر بعضها المئة عام، يرتادها زبائنها للتداول في شؤون بلدهم ومدينتهم واجترار ذكريات الأمس.
مقهى البرلمان
يجتمع أهالي السماوة يومياً في مقهى البرلمان الواقع في زقاقٍ صغير متفرّع من السوق (المسقف)، يناقشون أمور السياسة والدين وواقع المدينة.
تأسس المقهى في العام 1933، ويقع في (عجد الحدادين) وسط المدينة، ليغلق بعد العام 2003، لكن عماد آل فنين كان له رأي آخر، ليعيد افتتاحه من جديد بعد عشرين عاماً من الإغلاق، محتفظاً بهويتها التراثية القديمة من حيث أجهزة الراديو (ترانزيستور) القديمة، وبعض البنادق التي يفوق عمرها المئة سنة، كما يمنع في المقهى استخدام الانترنت ووسائل اللهو الالكترونية، لينشغل روادها بالنقاشات المفتوحة تيمناً باسم المقهى.

اختيار أعضاء مجلس الأعيان
يقول صاحب المقهى عماد آل فنين "شهد هذا المكان نقاشات حادة، كانت تدور بين المثقفين والأدباء والفنانين والسياسيين وحتى شيوخ العشائر، كما كانت تدور أيضاً سجالات سياسية وبالأخص بين عناصر الحزب الوطني الديمقراطي والشيوعيين في ذلك الوقت".
وأضاف "عاصر المقهى حكومات وأنظمة مختلفة، وأسهم بترشيح ممثلي المثنى لمجلس الأعيان في خمسينيات القرن الماضي بعد اختيارهم هنا، ففي العام 1954 ومن هذا المكان تم ترشيح المرحوم الشيخ عزارة المعجون لعضوية مجلس الأعيان الملكي، ليمثل السماوة التي كانت تتبع لواء الديوانية في ذلك الزمان".

معدات وأنتيكات قديمة
من هذا المذياع القديم كان الزبائن يستمعون إلى نشرات الأخبار ومعرفة أحوال البلاد وجديدها، وفي ركن آخر يحتفظ بأسطوانات (الغراموفون) وأشرطة (الكاسيت) القديمة لفنانين عراقيين وعرب من الجيل الأول.
يقول المؤرخ والمؤرشف جاسم فيصل الزبيدي، أن "مقهى التراث يعد متحفاً لذاكرة المدينة وحكاياتها، فالجدران تحتفظ بأقدم الصور والوثائق والأنتيكات، فهنا جزء من ذاكرة تجسدها البنادق والسيوف والدلال والخناجر القديمة". مضيفاً "المقهى عبارة عن متحفٍ مصغر يحتوي على (انتيكات) وقطع أثرية نادرة، كالبنادق والخناجر والصور والوثائق المهمة السياسية والإدارية التي تجاوز عمرها أكثر من مئة سنة".
ويسعى القائمون على المقهى إلى تسجيله ضمن الأبنية التراثية الشعبية القديمة، ليكون حافظاً لذاكرة المدينة وتراثها، وشاهداً سياسياً عبر عقودٍ طويلةٍ من الأحداث والصراعات.

مقهى التراث
ليس ببعيد عن المكان الأول، يقع مقهى (التراث) الذي أسسه العم أبو سعد، في العام 1953 في (عجد الحدادين)، ثم تحول إلى (عجد النجارين) قبل أن ينتقل إلى الكويت ليفتتح مقهاه هناك، قبل أن يعود إلى البصرة بمنطقة العشار، ثم انتقل إلى الموصل قبل عودته بشكلٍ تاريخي ومميز في السبعينيات إلى السماوة واستقراره نهائياً فيها.
مكان تزدحم جدرانه بالصور التراثية والفوتوغرافية لشخصيات وأحداث مرت على المدينة، كزيارة الملك فيصل الثاني وأول شاويش وقائم مقام وصور الزعيم قاسم وغيرها كثير، لتكون جزءاً يشير إلى أيامٍ بطعمٍ خاص، مصحوب بنكهة شاي المقهى.
صاحب المقهى هو شقيق الشاعر الغنائي الشهير "ناظم السماوي" استمد فكرته كما أخبرنا ابنه سعد، من صورة واحدة علقها على جدران المقهى مطلع الستينيات، ثم سافر للكويت ليفتتح مقهى شباب العرب هناك، وبعد عودته من الكويت تحولت الصورة إلى أكثر من عشر صور لحقب زمنية مختلفة، فضلاً عن أعداد كبيرة من العملات الملكية والطوابع وشتى المقتنيات الأخرى، ليتحول المقهى إلى متحفٍ مصغّر.

صور ووثائق مهمة
أكثر من ثلاثمئة صورة ازدحمت بها جدران المقهى فهي تحتوي على صور تاريخية للعراق ولبعض أزقة وشوارع مدينة السماوة، وأيضاً صور لرموز سياسية واجتماعية ودينية وعشائرية، وهكذا فالشاي المهيل في مقهى (أبو سعد) يعود بشاربه إلى ماضٍ عريق يحمل بين طياته تراث مدينة السماوة وأحداثاً مختلفة أرشفت في صور فوتوغرافية.
الأديب والإعلامي يوسف المحسن يقول "برغم صغر المكان، لكنه يتمتع بذاكرةٍ مشحونةٍ بكثير من التفاصيل على مستوى الأشخاص والأحداث وصروح البناء والتغيرات العمرانية وحركة النمو الحضاري للمدينة"، ويضيف "يشكل المقهى حلقة وصل الحاضر والماضي، فالشوارع بهيئتها السابقة وحلتها اليوم، تمنح المتلقي قدرة استرجاع الزمن وعقد المقارنة".
وكأن ارتشاف (استكانة) الشاي هي حركة لإيقاف الزمن والدخول في جولةٍ مجانية من خلاله.