عواطف مدلول
الساعة الأخيرة التي قضاها متنقلا بين غرف البيت الفارغة، قبل أن يودعه للذهاب إلى منزله الجديد، كانت الأصعب والأقسى في حياته، مرت دقائقها بطيئة، ثقيلة، مزدحمة بالذكريات السعيدة والحزينة معاً، مشحونة بالألم والأسى، انتهت به جالساً لوحده أمام واجهة الدار، محاولاً تهدئة عواطفه وكبت وقمع انفعالاته، وفي داخله رغبة مكتومة لضم واحتضان جدرانه والبكاء عليها؛ لأنها الشاهد الوحيد على كل لحظات البهجة والفرح التي جمعته بأسرته قبل وفاة والديه، وما لحقها من فترات كانت الكثير من أيامها مظلمة قاتمة، وضعته تحت مسؤولية كبيرة، لم يحسب لها أي حساب، تطلبت منه إدارة شؤون الأسرة وحماية مصالحها، فكان أميناً وملتزماً للوعد الذي قطعه لأبيه بهذا الخصوص، فهو أول أولاده وكبير الأسرة من بعده.
حيث استيقظ فجراً وما زال النعاس يغلب عليه وكأنه لم ينم طوال الليل، فقاوم رغبته بالبقاء بالفراش على مضض، للمغادرة في الصباح الباكر، لغرض أداء أثقل مهمة على نفسه، والتي تستدعي منه إتمام نقل بعض الأثاث والأغراض المتبقية بالبيت، بعد أن باعه إلى أحد الجيران واتفق معه بأنه سوف يأخذ على عاتقه تنظيفه وتجهيزه، ليسكن به مباشرة بدون أن يبذل جهداً بتهيئته، باستثناء بعض الترميمات البسيطة التي من الممكن أن يقوم بها أثناء سكنه فيه.
حال وصوله أنجز على مهل وببطء شديد كل الأعمال المطلوبة منه، وتقصد أن تكون آخر قطعة يحملها معه هي [عكاز الخشب]، حيث كان قد خصص لها مكاناً مميزاً في غرفة الضيوف لاعتزازه بها، لكونها تحمل آثار بصمات يد والده حينما كان يتكئ ويستند عليها في سنواته الأخيرة، التي شهدت انتكاسته الصحية وعجزه عن المشي، فأضحت رفيقه الثابت.
ووسط ذلك الصمت الذي خيم على المكان إلا من نظرة [فقد] تصرخ بأصوات الماضي في مشاهد تتعالى بها الضحكات الجماعية للأسرة، وأحاديثها ونقاشاتها الصاخبة وحتى نزاعاتها وخلافاتها مع بعضها، مسك العكاز محاولاً عدم الاستسلام لتلك الذكريات والتحكم بمشاعره ودموعه، ورأسه غارق بتفكير عميق فقد امتلأ بتساؤلات عديدة لم يجد لها أجوبة وتفسيرات منطقية، كيف للإنسان أن يقطع ذلك الحبل الروحي مع الأماكن والمدن التي نشأ وترعرع فيها؟ ولماذا صار الكثير من الناس يتنقلون بشكل دائم بين فترة وأخرى من بيت إلى غيره، وينفصلون عنه بكل سهولة دون أي احساس بالتعب النفسي، ألم ينتموا لمنازلهم، وأ لم يعشقوها مثله؟ وما هذا الرباط الوثيق الذي يجره نحو داره ويكاد يخلع روحه من جسده؟.
طرقات الباب كانت الرد الوحيد على أسئلته هذه، إذ استأذنه عدد من أطفال وشباب الجيران لإلقاء السلام عليه، وعناقه بدفء جبراً لخاطره بعد أن شاهدوا علامات الحزن والانكسارغطت وجهه، فتبادل معهم كلمات الامتنان وعبارات الشكر، واتفقوا على أن تبقى صلات الود قائمة بينهم ولا تتأثر ببعد المسافات، ويمكن الاستمرار بتلك العلاقات الطيبة عبر الهاتف ووسائل التواصل الاجتماعي، مؤكدين عليه عدم إهماله الحضور بالمناسبات والتجمعات التي تقام من قبلهم، حديثهم معه أنعش روحه وبث فيها شيئاً من الاطمئنان والراحة، فغادر بملامح مبتسمة متأبطاً عكاز والده التي انشغل بها، متأملاً بمخيلته المكان الأفضل الذي سوف يعلقها فيه.