خطايا السرد السبع

ثقافة 2024/10/16
...

موج يوسف 


  يرتكت الكاتب العربي المعاصر خطايا وهو يدون سرديته التي يريدها أن تبقى على قيد الأدب كما بقيت الأعمال الكلاسيكية كالعديد من الروايات التي مازلنا نعود إليها كلّما اختلط علينا الغيم بالبحر ونجدها ما زالت تنبض بالزمن الحاضر وكأن كتّابها كـ ( نيكوس كازانتزاكيس) في روايته ( المسيح يصلب من جديد) وفلوبير في ( مدام بوفاري) وبلزاك وبوكشن في ( ابنة الآمر) ـــــــ أمثلة لا على سبيل الحصر ـــــــ همسوا بأُذن الزمان أن يقف عند لحظة لا تشيخ لأنَّ العيب والرذيلة في النفس لا في الزمن كما في رواية السقوط لألبير كامو.

 لكن ما نجده في الروايات العربية المعاصرة يخرجها من تصنيف جنس الرواية لافتقارها لأهم الأسس الفنية في العمل الروئي، فليس كلّ ما يكتب من سرد يسمّى رواية، وليست كلّ رواية تفوز بجائزة عربية يعني أنها تفوقت بالإبداع، لأنّ الجوائز تُعنى بالموضوع ولم تفتش عن القيمة الفنية أو التساؤلات الفلسفية لفهم الإنسان والإله والخير والشر التي تجعل القارئ يحتاج إلى حضور عقله الحر والتأمل في المكتوب فضلاً عن ضعف الصراعات والحكبة وغيرها من الخطايا التي سنفصلها كالتالي: 

اللغة المقعرة

في الرواية لابد أن تحضر لغة الصورة التي تشبه عصرنا وقادرة على العبور إلى المستقبل تسمح للفيض الهائل من المعارف تأوي إليها محققة هذا بلغة بصرية عالية لكن هذا غير موجود في أغلب الروايات العربية وسأقف عند رواية فراكنشتاين في بغداد الفائزة في البوكر والتي ترجمت إلى أكثر من لغة، لكن لغتها الأم ابتعدت عن الأدب وكتبت بلغة صحافية ركيكة في البناء ففي الصفحة الواحدة يرهقنا التكرار لأسماء شخصيات أو جمل مكررة، فالرواية ــــــ أن عدت رواية ــــــــ لا تنتمي إلى عائلة الأدب لأنها فقدت شرطاً أساسياً هو اللغة الأدبية:” قال المجرم الذي لا اسم له ذلك، وتقدم من المنجم العجوز بسرعة أمسك به من يديه. عصرهما بشدة فشعر المنجم بأن قواه تخور وأنه غير قادر على الاستمرار بالوقوف تداعت قواه أكثر وظل المجرم يدفعه بهدوء ويستمر بعصر زنديه” ص 321 . هذا نموذج يسير على باقي الصفحات وكلها جمل إخبارية ينهكها الحشو ، قال المجرم تقدم من المنجم شعر المنجم وغيره في السرد لا تضيف للقارئ لغة أو متعة فكل ما يقال في المقهى والشارع لسان العوام موجود فيها، فهي ريبورتاج صحفي يوثق مرحلة عاشها العراق لكن بطريقة ضبابية. 

الخلل البنائي وشخصية الكاتب ظاهرة 

هذه الثنائية تظهر كثيراً في الروايات وسأوضحها في  الديوان الأسبرطي الفائزة بالبوكر وتسمية الرواية جاءت من كتاب ( الديوان الاسبرطي) الذي كان يقرأه كافيار أحد الشخصيات سارداً فيه بعض ما وقع في المحروسة وكأنه يحتوي على قصص عمل الروائي على أن يضمنها في تقنية الميتاسرد أو ما وراء السرد الذي عن طريقه يقف الروائي  على الماضي القديم بفهم ووعي وانعكاسية ذاتية، لكن ما حدث أن القارئ للكتاب الاسبرطي لم يجده يحمل على تقنيات الرواية أو القصة القصيرة؛ لأن البطل كافيار كتبه على شكل سرد ذاتي تاريخي بعنوان ( لوحات) وهذا الخلل الفني الذي أبعد الرواية عن تقنية الميتا سرد . الأمر الأخر ظهور شخصية الكاتب وهو أن عيساوي وظف الراوي بضمير المتكلم في الشخصيات الخمس التي اشتركت في سرد المكان والزمان والحدث وهذه الشخصيات متفاوتة فيما بينها لكننا عند القراءة نجد أن الروائي لم ينسلخ منها ولم يتركها تتحدث بل نجد الايديولوجية السياسية متحدة في الشخصيات وأظهرت مناهضتها للاحتلال العثماني فمنهم شخصية الصحفي ديبون (( الكلّ يريد القضاء على ربوة القراصنة التي تستعبد المسيحين ، الكلّ يحلم بالقضاء على أسطورة الأتراك المتوحشين في المتوسط )) ص 29  وهكذا باقي الشخصيات حتى دوجة فتاة البغاء تمقت المحتل العثماني وتميل إلى المحتل الفرنسي وكلاهما احتلال وهنا يظهر الكاتب الذي أقصى شخصياته من وجهة النظر، وهذا خلل فني كبير. 

ضحالة الوعي/ ضعف الصورة

يحاول الكاتب أن يخرج من غرفة التخدير فيدخل إلى غرف التابو ويخذله وعيه لاسيما في موضوعات الجندر التي توظف كموضوع  رئيسي في الأدب تتطلب والوعي وعدم المباشرة لأنّها تقتل التمرد، وفي( خبز على طاولة الخال ميلاد) لمحمد النعاس والفائزة بالبوكر أيضاً نرى أن البطل هو الراوي بضمير المتكلم والمولود في كنف سبع أخوات ويحكي قصته كيف صار يأخذ دور المرأة في البيت والعمل مقابل أن تعيش زوجته برفاهية عالية وحرية مطلقة منحها لها لكن ضحالة وعيه تظهر في  شكوكه المستمرة بخيانة زينب لها كلّما مارست حياتها بشكل طبيعي كقوله: “ ففي المساء التقيت العبسي مجدداً، أخبرني أنه رأى زينب مرة أخرى تركب سيارة المدير العام قرر أن يتبعهما فوجدهما يحتسيان القهوة .. اخبرني أنه رأى زينب تدخن وهو أمر كنت أعرفه من قبل فأنا علمتها. . لم أعرف كيف أفتح معها حديث شكي في خيانتها رغم أدلة العبسي؟” وفي موضع آخر قرر الانتحار بسبب شكوكه بالخيانة “ هي تعرف أنني لن أشك فيها أبداً ولهذا من الممكن أن تخونني بسهولة من دون أدرك .. أخذت الحبل وربطته في الثريا ..” ص 100، 38 . يحاول النعاس أن يلوِّث معنى الجندر عندما خلق شخصية ميلاد البطل ضعيفة ومهزومة مع إيمانه بحرية المرأة التي صار يلوِّثها عبر الأنساق الثقافية بيت الوعي السام الذي يرى في النساء المتحررات أنهن مشاريع جنسية لاغير، فيثبت هذه الوعي عند القارئ ليعزز من وجود هذا النسق ويعيد قمع المرأة التي عاشت حياتها كما تحب.

عيوب الأسلوب/ تهميش المرأة

إن هذه الثنائية هي الأكثر انتشاراً في الروايات العربية فالأسلوب هو الرجل كما أقر به نقاد الأسلوبية، ويحتاج إلى مهارة عالية في صنع الجملة والفقرة وأن تبتعد عن الإنشائية وتثير الدهشة لتشدَّ القارئ لكن الملاحظ في العديد من الروايات التي حاولت أن تسدَّ عيوب الأسلوب بالمرأة وتوظيفها وهذا تسبب بخلل آخر، وهو كثرة استعمال جسدها وممارسة الجنس من دون وضعها في مسار فني يحتاجه السرد ولعل الكاتب علي بدر في كل كتابته أتقن هذين الأمرين ولو طالعنا ( لا تركظي وراء الذئاب يا عزيزتي) التي تتحدث عن صحفي عراقي مقيم في أمريكا ترسله إحدى الوكلات الأجنبية للبحث عن الشيوعيين العراقيين في أديس بابا وهذه الصحفي له زوجة وعشيقة وعند وصوله إلى أفريقا  يغريه الجسد الأسمر فيمتهن الجنس بدلاً عن مهامه الأصلية فيتخذ من لاليت عشيقة أخرى فيقول: “ حين دخلت الشقة كانت لاليت نائمة رفعت الغطاء عنها ودسست نفسي خلف مؤخرتها عارياً تماماً، كانت رائحتها طيبة، وشعرها الكثّ ينغز وجهي فيهيجني نقرتها بأصابعي تحركت فتحت عينيها ابتسمت مدت يديها إلى وسطها خلعت سروالها...” ص 243 . عند التدقيق في النص وهو نموذج يسير على كل روايات علي بدر نجد المرأة والجنس هما الموضوع والثيمة الأهم، وأسلوب السرد ليس كتابياً بل شفاهياً لأن الجمل أخبارية مباشرة، بالمقابل توظيف جسد المرأة وتسخيره جنسياً في السرد من دون حاجة فنية هو تهميش لها وإلغاء لدورها الوجودي. 

الرواية العربية بحاجة إلى قراءة فاحصة لوقف نزيف السرد والاستسهال المستمر فمن غير المعقول أن الكمَّ الهائل والمنتشر من الروايات كلها روايات بالمعنى الفني، والنماذج المختارة في المقالة حازت على البوكر وبيّنت ضعفها وفقرها لأهم الأسس لبناء الرواية.