ناجي الغزي
في خضم الأزمات الإقليمية المتفاقمة في منطقة الشرق الأوسط، يبرز العراق كلاعب دبلوماسي يمكنه أن يلعب دوراً حيوياً في توجيه مسار السلام والتسوية. تعد منطقة الشرق الأوسط واحدة من أكثر المناطق تعقيداً سياسياً واستراتيجياً، حيث تتداخل فيها مصالح الدول الكبرى، ويمتد تأثير الصراعات فيها إلى الساحات الدولية. ويظل العراق بحكم موقعه الجغرافي، وتاريخه الطويل، وعلاقاته المعقدة مع القوى الإقليمية والدولية، في موقع فريد يمكنه من أداء دور الوسيط الفاعل والداعي للسلام.
العراق كجسر بين الأطراف المتنازعة
يحظى العراق بعلاقات متوازنة مع القوى الرئيسية المؤثرة في المنطقة، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، إلى جانب الدول العربية. هذه العلاقات تتيح للعراق فرصة نادرة للعب دور الوسيط بين هذه الأطراف المتنازعة، التي تسيطر على مقدرات المنطقة وتوجهاتها السياسية والأمنية. على سبيل المثال، العلاقات الوثيقة بين العراق وإيران والتي تمتد عبر روابط تاريخية وثقافية، تمنح بغداد موقعاً متميزاً يمكن استثماره في تهدئة التوترات بين طهران وواشنطن، في ظل تصاعد الخلافات حول البرنامج النووي الإيراني وتبادل العقوبات الاقتصادية بين الطرفين.
في هذا السياق يمكن للعراق أن يستفيد من علاقاته الوثيقة مع إيران لحثها على الحوار مع المجتمع الدولي والابتعاد عن المواجهة المسلحة، وهو ما تجلى في عدة مناسبات. فقد سبق للعراق أن لعب دوراً محورياً في تهدئة التصعيد العسكري بين طهران وواشنطن بعد مقتل الجنرال قاسم سليماني في بغداد عام 2020، حيث دعا إلى ضبط النفس واستضاف اجتماعات بين الأطراف المعنية لاحتواء الأزمة.
دور العراق الدبلوماسي في الجامعة العربيَّة
على الصعيد العربي يحتفظ العراق بعضوية فعالة في الجامعة العربية، وقد دعت بغداد في مناسبات عدة إلى عقد اجتماعات طارئة للنظر في التوترات الإقليمية، مثل الصراع السوري والأزمة اليمنية. إن دور العراق كعضو في الجامعة العربية، وموقعه كدولة تقف على مسافة متساوية من العديد من الأقطاب العربية المتصارعة، يعزز من قدرته على بناء جسور الحوار بين الأطراف المختلفة.
ومثال آخر على هذا الدور كان اجتماع الجامعة العربية الطارئ، الذي دعا إليه العراق في عام 2021 لبحث التصعيد بين الفلسطينيين والإسرائيليين في قطاع غزة. كان هذا الاجتماع فرصة للعراق لتأكيد موقفه الثابت من القضية الفلسطينية ورفضه لأي تصعيد عسكري، بالإضافة إلى دعمه لحل النزاع بالطرق السلمية والدبلوماسية. كما أكد العراق خلال الاجتماع ضرورة تعزيز العمل العربي المشترك لتسوية الأزمات الإقليمية بما يحقق الاستقرار والازدهار.
دور العراق في صياغة سياسات التهدئة
في ظل التوتر الإيراني-العربي
يشكل التصعيد المستمر بين إيران وعدد من الدول العربية، خاصة المملكة العربية السعودية، تحدياً كبيراً للأمن الإقليمي. ولكن العراق بما له من علاقات استراتيجية مع الجانبين، يعتبر الدولة المثلى التي يمكن أن تقوم بجهود الوساطة. فعلى مدار السنوات القليلة الماضية، استضاف العراق عدة جولات من المحادثات بين إيران والسعودية، وقد نتج عن هذه المحادثات انفراجة دبلوماسية هامة توجت بإعادة العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين في عام 2023.
وقد عبرت بغداد عن رغبتها الدائمة في أن تكون ساحة لتقريب وجهات النظر وحل النزاعات بالطرق السلمية، وهو ما يشير إلى سياسة دبلوماسية واضحة تتبناها الحكومة العراقية، مفادها أن العراق يرفض الاصطفاف إلى جانب أي طرف في النزاعات الإقليمية ويؤمن بأهمية الحوار كسبيل لتحقيق الاستقرار.
دور العراق الدولي
في تحقيق التوازن الاستراتيجي
علاوة على دوره الإقليمي، يحافظ العراق على علاقات دبلوماسية قوية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى روسيا والصين. هذه العلاقات تمنح العراق القدرة على لعب دور "الوسيط الدولي"، حيث يمكنه نقل الرسائل بين الأطراف المتصارعة في إطار احترام القانون الدولي والمبادئ الدبلوماسية.
وقد تجلت هذه القدرة بشكل بارز عندما شارك العراق في جهود إقناع القوى الدولية الكبرى بضرورة الحفاظ على الاتفاق النووي الإيراني، وهو الاتفاق الذي شكّل نقطة توازن استراتيجية في المنطقة، وكان انهياره المحتمل مصدر قلق إقليمي ودولي. العراق، إذاً هو طرف غير منحاز لكنه مستثمر في بقاء السلام والاستقرار في المنطقة، ما يدفعه إلى لعب دور دبلوماسي نشط لمنع التصعيد.
دور العراق المستقبلي
في بناء منظومة أمنية إقليمية
إن الأزمة الإقليمية الراهنة، بما فيها الصراع العربي الإيراني والاشتباك الإيراني الأمريكي، إلى جانب الوضع المتفجر في فلسطين ولبنان، تتطلب دوراً دبلوماسياً متيناً وقوياً يمكن للعراق أن يؤديه بجدارة. في هذا الإطار يمكن للعراق أن يدعو إلى مبادرة إقليمية شاملة لبناء منظومة أمنية تعاونية تضم جميع الدول الفاعلة في المنطقة. هذه المبادرة التي يمكن أن ترعاها الجامعة العربية بالتنسيق مع الأمم المتحدة، يمكن أن تضع الأسس لعملية استقرار طويلة الأمد تعنى بحل النزاعات القائمة وتفادي التصعيد.
العراق بحكم تاريخه وتجربته مع الحروب والدمار، يمكن أن يقدم نموذجاً للدول التي عانت من الصراعات بأن الطريق إلى الاستقرار لا يأتي عبر السلاح والمواجهات، بل عبر الحوار والدبلوماسية.