نبيه البرجي
طويلاً تأرجح بنيامين نتنياهو بين وصف هنري كيسنجر للبنان بـ"الفائض الجغرافي"، الذي يمكن استعماله في تسوية أزمات المنطقة، ووصف آرييل شارون له بـ"الخطأ التاريخي"، بعدما كان المفكر اليهودي الأميركي ناعوم تشومسكي، قد ندد بـ"التنكيل بالتاريخ، وبالجغرافيا، في صناعة "إسرائيل".
توماس فريدمان، الصحافي الأميركي، اليهودي أيضاً لم يجد فارقاً بين خيال نتياهو وخيال الثعبان، ليسأل "أي إسرائيل بعد ليلة الثعبان في الشرق الأوسط ؟"، وهو الذي لاحظ في مقاله الأخير، في "النيويورك تايمز"، أن أميركا لن تحمي إسرائيل إلى الأبد"، لتشير مصادر ديبلوماسية أوروبية في بيروت إلى أن رئيس الحكومة الاسرائيلية قال لأنتوني بلينكن "لا طريق أمامنا سوى ازالة "حزب الله" ولو اقتضى ذلك ازالة لبنان"، مستنداً إلى قول "سفر زكريا" "افتح يا لبنان أبوابك فتأكل الثيران أرزك / ولول أيها السرو على سقوط أرز لبنان، ودمار أشجاره العظيمة..."، والى قول المزمور (5 / 29 6) صوت الرب يحطم أرز لبنان / يجعل لبنان يقفز قفز العجل"، دون أي اعتبار لكون هيكل سليمان بني بخشب الأرز...
إزالة البلد الذي رأى فيه الشاعر، والسياسي الفرنسي ألفونس لامارتين "أريكة القمر"، كما كان الشاعر العراقي بدر شاكر السياب، يقول لأصدقائه في مقهى "الهورس شو" في بيروت "... وأنا أتنشق هذا الهواء أشعر أته آت للتو من الجنة". أما نتنياهو فيرى فيه المدخل إلى تطبيق الشعار الذي أطلقه غداة عملية "طوفان الأقصى": "تغيير الشرق الأوسط".
نسأل ماذا اذا انتفخ الثور لا الضفدعة؟ هذا ما حذّر منه ناحوم غولدمان، أحد آباء الدولة، وكان من مؤسسي "المؤتمر اليهودي العالمي"، وقد ترأسه بين عامي 1951 و1978، كما ترأس "المنظمة الصهيونية العالمية" من عام 1956 إلى عام 1968. لاحظ مدى التفاعلات الايديولوجية داخل الفسيفساء الاسرائيلية، والتي يمكن أن تفضي إلى ظهور "الرؤوس المجنونة". لهذا دعا إلى تغيير البنية الفلسفية لإسرائيل، والتي تتجه إلى التماهي مع النموذج الاسبارطي، لتغدو على شاكلة "الفاتيكان اليهودي".
الفيلسوف اليهودي الأميركي نورمان فلنكشتاين ابدى ذهوله حيال كلام نتنياهو بـ"تغيير الشرق الأوسط"، ما تعجز عنه القوى العظمى، بعدما كان كيسنجر اياه قد لاحظ حساسية التضاريس اللاهوتية فيه، إلى الحد الذي حمله على القول، اثر فشل ديبلوماسية الخطوة خطوة، "ربما كان علينا أن نستأنف المفاوضات في العالم الآخر"، مع الأخذ بالاعتبار تأثير التوراة، بالتأويل الدموي للنصوص، في تشكيل العقل السياسي في الدولة العبرية.
تلك الثلة من الذئاب ترى أن الظروف مثالية، في ظل الفوضى (أو الضبابية) الدولية الراهنة، ليس فقط لإنشاء "مملكة يهوه"، وانما أيضاً لإنشاء "أمبراطورية يهوه"، لنستعيد ما كتبه بول كنيدي حول "صعود وسقوط القوى العظمى". ولكن أي أمبراطورية تلك حين يكتب جدعون ليفي في صحيفة "هاآرتس" "لولا الامدادات العسكرية الأميركية اليومية، لكان علينا أن نقاتل الفلسطينيين بالعصي والحجارة"؟
هنا النقطة التي تثير هلع المؤرخ الاسرائيلي شلومو ساند (صاحب "اختراع شعب اسرائيل") "كيف لدولة ما أن تربط بقاءها بالتبعية لدولة أخرى، أياً كانت هذه الدولة، وفي منطقة قال هيرودوت، منذ 2500 عام، أنها تقع على خط الزلازل ؟". لا يقول بالحد من دينامية العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، بل بتغيير المفهوم التاريخي، والايديولوجي، للدولة، اذ من المستحيل المضي في سياسات "القوة العمياء" والتي طالما قادت إلى غروب الأمبراطوريات.
كثيراً ما كتب المؤرخون عن "قهقهات التاريخ، وهو يتقيأ الأمبراطوريات"،حتى ولو ذهبت اسرائيل بعيداً في الزمن التكنولوجي، لنذكر أنه عندما أطلق الرئيس الأميركي رونالد ريغن برنامج "حرب النجوم"، والذي يلحظ اقامة منصات فضائية مزودة بأشعة اللايزر، وبالجزيئيات الالكترونية، لتدمير أي صاروخ عابر للقارات بعد 7 أو 8 ثوان من اطلاقه، حط المدير التنفيذي للبرنامج الجنرال جيمس آبرامستون في تل أبيب (صيف 1981)، ليوقع سلسلة من الاتفاقات بتكليف إسرائيل صناعة بعض الأجهزة التابعة له.
لكن اسرائيل تبقى بالمساحة الجغرافية الضئيلة، وبالحجم الديموغرافي المحدود، عاجزة عن تجاوز معايير معينة للقوة، وفي محيط رصد، بدقة، سياساتها القائمة عل الاقتلاع، والاغتصاب، والترويع.
التجربة الأولى، والمدوية، كانت في غزة التي قال دافيد بن غوريون انه يتمنى لو استيقظ ذات يوم ليراها وقد زالت عن الخريطة كقنبلة ديموغرافية في الخاصرة الاسرائيلية. ولكن هل تمكنت الأرمادا الاسرائيلية من اخماد "ذاكرة النار" لدى الفلسطينيين الذين تمكنوا، وفي ظروف تفتقد الحد الأدنى من التكافؤ من قهر القوة التي لا تقهر.
الأنظار تتوجه إلى لبنان، وحيث يبدو واضحاً أن الائتلاف الجهنمي في اسرائيل يسعى، ومن خلال التدمير المنهجي للمدن والقرى، إلى الحيلولة دون عودة الجنوبيين إلى أرضهم في اطار الخط الرامية إلى احداث تغيير بنيوي في الوضع اللبناني، وعلى المستويات كافة، ليكون ضاحية للهيكل، وهو الرهان المستحيل في ظل الأداء الأسطوري للمقاومة.
وكان ايهود باراك، الجنرال الذي تتكدس على صدره أكبر كمية من الأوسمة، وهو صاحب القرار بالخروج من لبنان عام 2000، حين كان رئيساً للحكومة، قد توجه إلى نتنياهو بالقول "اياك والذهاب بنا إلى جهنم...".
لبنان أمام الاختبار الصعب. المنطقة كلها أمام الاختبار الصعب. الفيلسوفة اليهودية الأميركية جوديث باتلر قالت "لقد جعلنا نتنياهو نشعر أننا لو أقمنا الصلوات إلى آخر الدهر، لن نستطيع أن نغسل أيدينا الملطخة بالدم".
صاحبة "مفترق الطرق: اليهودية ونقد الصهيونية" تستند إلى "جدلية الأزمنة"، و"جدلية الثقافات" بطبيعة الحال "جدلية الاستراتيجيات" لتقول "إن التغيير حتمي في اسرائيل التي اختبرت ما تعنيه السياسات المجنونة. الأهم الأيديولوجيات المجنونة"!