هل كانت لحظات مضيئة حقاً؟

ولد وبنت 2024/10/21
...

 ميادة سفر


في العام 1927 نشر ستيفان سفايغ كتابه «لحظات مضيئة من تاريخ البشرية» الصادر حديثاً عن دار كنعان في سوريا بترجمة الموسيقي السوري غزوان الزركلي، متضمناً خمساً من القصص التاريخية لحوادث تعد مفصليَّة وحاسمة ومصيرية، تركت آثاراً لا تمحى في تاريخ البشريَّة، من سقوط بيزنطة إلى اكتشاف مدن الذهب في أمريكا اللاتينيَّة إلى القطار المحمي الذي سيعيد لينين إلى موسكو، ليعود بنا إلى الإمبراطوريَّة الرومانيَّة وحكاية عن تشيتشرو «وهو أول من اغتاله الاستبداد بسبب مواقفه الإنسانيَّة»، وصولاً إلى العصر الحديث وحكاية بعنوان «إخفاق ويلسون» يوم فشلت محاولات تجنب وقوع الحرب فعاد إلى وطنه «منهكاً روحياً وجاهزاً للموت»، يوم «انتصر اللامعنى على المعنى، وانتصرت الهوجاء على الحكمة»، لتشكل قصتا تشيتشرو وويلسون خلاصة ما فكَّر به سفايغ وظل طوال عمره «يكافح من أجل محوه عن وجه الأرض من حرب ودمٍ وتعصب واستبداد».

بأسلوب أدبيٍ رشيق وشيّق يروي ستيفان سفايغ تلك الحوادث التاريخية متضمنة الكثير من التلميحات، ولحظات الخوف واليأس والإحباط التي شعر بها أبطال تلك القصص سواء أكانوا قادة أم جنوداً أو مواطنين عاديين، فضلاً عن لحظات الأمل التي تخللت تلك الحيوات وكأنها دعوة لرؤية الجانب المشرق من الحياة، والإقدام والسعي نحو الحلم أياً تكن الصعوبات والعوائق، وكأننا نسمع الكاتب النمساوي ستيفان سفايغ يحثنا على الإقدام والمغامرة وألا نبقى متفرجين على ما يجري من حولنا.

ربما كانت لحظة «سقوط بيزنطة» وهي الحكاية التي يستهلُّ بها الكتاب الذي نتحدث عنه لحظة مضيئة للسلطان محمد الثاني الذي تولى السلطة بعد موت والده السلطان مراد عام 1451، وعيونه إلى بيزنطة التي كانت «يوماً عاصمة العالم»، أما بالنسبة لسكانها فقد كانت من اللحظات الأكثر إيلاماً في تاريخها وهم يحصون قتلاهم «إنّ التاريخ يعطي للأرقام أحياناً أهميَّة خاصة»، فها هي بيزنطة وبعد ألف عامٍ من هجوم البرابرة الجرمان تستلب على يد محمد الفاتح الذي سيفي بوعده لجنوده، ويترك المدينة للسلب والنهب، كل ما فيها من بيوتٍ وقصورٍ وكنائس ونساءٍ وأطفالٍ ورجالٍ تحولت إلى غنائم لآلاف الجنود، لم يسلم شيء منهم «لقد أفنوا اللوحات الفنية وهدموا التماثيل وأبادوا الكتب»، وبذلك تحقق حلم محمد الفاتح السلطان العثماني الذي كان «يقضي الليالي مفكراً بإستراتيجيات هدف حياته»، تسقط بيزنطة ويسقط معها الصليب من قمة «آيا صوفيا» هذا السقوط الذي «سيهزُّ أوروبا كلها».

في ضفة أخرى من العالم سيشكل عام 1513 تاريخاً مفصلياً آخر إنه اكتشاف المحيط الهادئ، بعنوان «الهروب إلى الخلود» سيحكي ستيفان سفايغ رحلة اكتشاف الذهب ودول أمريكا اللاتينيَّة التي بقيت حتى ذلك التاريخ آمنة وبعيدة عن الأطماع والمشاكل، لكنّ الخبر الذي جاء به كولومبوس «عن البلد الذهبي المكتشف، حيث يلمّ الذهب بالأيدي المجردة، جعل اسبانيا كلها بلداً مسعوراً»، بكثيرٍ من التفاصيل والحوادث والدماء يحكي سفايغ ذلك التاريخ من حياة قارة بأكملها، وحياة أولئك الذين أرادوا الهروب إلى المجد الأبدي، أولئك الذين كان لهم السبق في اكتشاف مدن الذهب، إلا أن «التاريخ لا يحتفي إلا بالنتائج النهائية» لذلك لم يبق لـ «بالبووا» الذي كان أول من وصل إلى تلك المدن، لم يبق له إلا الموت.

في تلك القصص التي تركها ستيفان سفايغ قبل انتحاره وزوجته عام 1942 محتجاً على ما يجري في العالم من مآسٍ، قال الكثير عن التاريخ وعن تلك اللحظات التي «تحسم مصير الإنسان، وربما مصير الإنسانية»، فهل كانت تلك اللحظات مضيئة حقاً؟ كما جاء في عنوان الكتاب، أم إنها الأكثر قتامة بما تشي به من دموية الإنسان هذا الكائن الذي ما زال يعتاش على الحروب والقتل والدماء، أحداث عايشها سفايغ الكاتب النمساوي من أصل يهودي (1881 - 1942) والذي يعدُّ واحداً من أشهر كتاب أوروبا في القرن الماضي، اشتهر بدراساته التي تناولت حياة العديد من مشاهير العالم: تولستوي ودوستويفسكي وبلزاك وغيرهم كثير، فضلا عن العديد من الروايات والقصص.