عراقيون ولغز السفينة استونيا
هلسنكي: يوسف أبو الفوز
مرت ثلاثة عقود على غرق السفينة استونيا، وما زالت الصحف في الدول المطلة على بحر البلطيق تتحدث عن المأساة كلّما تحل ذكراها. كان بحر البلطيق هادئا مساء يوم 27 ايلول 1994، حين ابحرت من ميناء تالين سفينة نقل الركاب التي تحمل اسم "عذراء استونيا"، في طريقها إلى ستوكهولم حاملة حوالي ألف راكب من جنسيات مختلفة، غالبيتهم من السويديين والأستونيين، وبينهم فنلنديون.
كانت سنة بناء السفينة في ألمانيا عام 1979. عملت في السنوات 1980 ـ 1990 بين مدينة توركو الفنلندية والعاصمة السويدية ستوكهولم، وفي الأعوام 1991 ـ 1993 عملت ما بين مدينة أوميو السويدية وفازا الفنلندية. في كل مرة كانت السفينة تحمل اسما يناسب خط النقل واهواء الشركة المالكة، فهي مرة Viking Sally، ومرة Silja Star، ومرة Vasa King، الا انها في كل مرة ومع تغير الشركة المالكة ظلت سفينة لنقل الركاب والسيارات بين شواطئ المدن الكبرى في دول بحر البلطيق.
يومها كنت شخصيا مع 98 عراقياً، نخوض محنة اليوم التاسع من الاضراب عن الطعام للخلاص من ورطة السجون الاستونية، بعد ان القت القبض علينا السلطات الاستونية، لتجاوزنا الحدود بشكل غير شرعي في طريقنا إلى السويد. غدر بنا المهرب العراقي، حامل الجنسية السويدية والمقيم حاليا في كندا، وتركنا لمصيرنا المجهول بعد أن صرف على موائد القمار ما استلمه من العراقيين الذين وثقوا به وسلموه أجور نقلهم إلى السويد.
هل كان السجن منقذا لنا من الموت؟ ربما!
كانت تالين في تلك الأيام محطة أساسية لعبور العراقيين، الهاربين من سجن كبير اسمه العراق، والحالمين ببلد يمنحهم سقفا آمنا بعيدا عن شرطة وسجون الديكتاتور المجرم صدام حسين وجبهات حروبه وزنازين سجنه وعذابات الحصار الاقتصادي، حيث يمكنهم العيش بهدوء وتربية ابنائهم في أجواء مطمئنة. يصل العراقيون إلى تالين بشكل غير شرعيّ من روسيا بطرق مختلفة، في طريقهم إلى دول الشمال الأوروبي خصوصا إلى السويد التي تمنح العراقيين أيامها حق اللجوء
بسهولة.
عمل العديد من المهربين العراقيين كوكلاء مع المافيات الروسية والشيشانية الذين لهم علاقات بشكل ما مع عاملين في السفن المبحرة في بحر البلطيق. الطريقة المثلى للتهريب، هي وضع مجموعة من الراغبين باللجوء، في سيارات الشحن، وذلك بإعداد مساحة فارغة بين البضائع، يزودون بالمياه ووجبة طعام ويطلبون منهم السكوت، (يعطون الأطفال حبوبا منومة) وتصعد السيارات بحمولتها إلى ظهر الباخرة. قبيل وصول الباخرة إلى الشواطئ السويدية يسمح للركاب بالخروج والاختلاط بركاب السفينة وثم النزول إلى الأراضي السويدية وتسليم أنفسهم لاحقا للشرطة السويدية والادعاء بأنهم وصلوا عن طريق المطار او طريق آخر ما للتغطية.
فجأة هاج البحر، وبسرعة خاطفة هبطت السفينة استونيا مع 852 راكبا إلى قاع البحر. لم ينج إلا 230 راكبا. كأن مأساة التايتانك تتكرر هنا مع قلة قوارب النجاة، وعدم صلاحية بعضها. كان غرق السفينة استونيا صدمة إنسانيّة، أدخل الرعب في نفوس سكان الدول في بحر البلطيق، المحبين للسفر والسياحة، مستثمرين عطلات نهاية الاسبوع، والإجازات القصيرة. هاج وغضب أوكو، إله الأعالي، مالك الرياح، عند الفنلنديين، فأرسل العاصفة التي حولت أمواج البحر إلى جبال غاضبة راحت تتلاعب بالسفينة مثل دمية. سرعان ما مالت السفينة بحمولتها، فتكسرت سلاسل ربط وثبيت سيارات الحمل الكبيرة كما تقول فرضيات التحقيق. بدأ الهياج على سطح السفينة، وراح الناس يتراكضون بدون هدف. كان غالبية الركاب في قمراتهم، لم يفهم كثيرون ما الذي يجري وماذا يفعلون. خلال عشرين دقيقة، انفصلت مقدمة السفينة مثلما يكسر الإنسان قطعة خيار مطلقة دويا كأنه الانفجار.
هذا الصوت الغريب جعل فرضيات التخريب ووجود قنبلة وصراعات المافيا وشركات النقل تطفو للسطح عاليا. عند الواحدة والنصف ليلا بدأت السفينة بالغرق، خلال ثلاث وعشرين دقيقة اختفت تماما بكل ركابها وحمولتها في مياه البحر الهائج، ليعم الحزن والأسى والخوف والاحتمالات والتكهنات شواطئ بحر البلطيق والعالم، ولتشهد بلدان حوض البلطيق أمواج اسئلة هائجة واشاعات لا حصر لها. كيف سكن البحر في اليوم التالي بشكل غريب؟ ماذا عن طاقم السفينة، لماذا نجوا كلهم؟ ما هي الاسباب الحقيقية لتخلف مساعد القبطان في اللحظات الاخيرة عن الالتحاق بعمله، ولماذا اختفى بشكل غامض؟ أهي حرب سريّة بين شركات التأمين؟ أهي فصل من حرب التجسس؟ لحساب من، ومصلحة من؟ انتهت الحرب الباردة ولم يعد هناك بعبع سوفياتي للكثيرين؟ أتكون روسيا لا تزال تشكل خطرا على جيرانها؟ وما دخل السياسة بحياة 852 إنسانا بريئا؟ ما هي عوارض ونتائج العقدة النفسية الجديدة التي ظهرت عند فئات من الناس باسم "استونيا"؟ ما هو مصير الضحايا وحقوقهم؟
قررت الحكومات المعنية بمأساة استونيا ردم السفينة استونيا وما فيها بأطنان من الإسمنت وهي في قاع البحر وتحويلها إلى قبر جماعي، تفاديا لأثارة الكثير من الأحزان. كتبت عن المأساة العديد من الكتب التي ترجمت لمختلف لغات العالم وأخرجت العديد من الأفلام الوثائقية، وبثت
عشرات الساعات من الأحاديث التلفزيونية، بل وهناك رابطة للناجين من مأساة
السفينة.
وتحول يوم غرق السفينة إلى مناسبة حزن تجمع أسر الموتى، فكل عام تبحر السفن الصغيرة والطائرات الشراعية إلى
هناك لتلقي بباقات الورد ولتقام مراسم الحزن.
كان مقدر للبعض من العراقيين المسجونين في سجون استونيا، أن يكونوا على ظهر الباخرة استونيا، فقد نجح المهرب العراقي بإرسال شحنة من العراقيين على ظهرها قبل عدة شهور. غلب عليه الطمع، فبدل إرسال 45 شخصا، وكل شخص يدفع من ألفين إلى ثلاثة آلف دولار، أراد المغامرة بجمع أكثر من خمسين شخصا، فقام بتجميعهم في شقق في مدينة تالين بانتظار اليوم الموعود للسفر، ولم يدر بأنه وزبائنه كانوا تحت مراقبة الشرطة الاستونية معززة بوحدات من السويد
التي حصلت على معلومات كافية من زبائنه الذين وصلوا الأرض، وانتقاما من سلوكه العفن معهم زودوا السلطات السويدية بكل شيء، حتى صوره!
على الأرض حصلت العديد من القصص المأساوية. في تلك الأيام ترددت قصة مجموعة من العراقيين الذين اختفوا في روسيا بشكل غامض. قيل إنهم اختفوا في تالين. هل يمكن أن تكون المافيا الروسية وبعد أن سلبتهم ما يملكون قتلتهم في غابة على مشارف بطرسبورغ عند الحدود الاستونية ودفنتهم هناك؟ طويلا ظلت السلطات الروسية أيامها تحقق في جثث لناس مجهولين لا يحملون اي وثائق؟ هناك روايات أخرى ذكرت أن مافيا استونية أخبروا مجموعة من العراقيين أنهم في طريقهم إلى ألمانيا، ولكن في مقبرة استونية، وفي قبر واحد، دفنوهم جميعا بعد اعطائهم طعاما مسموما. اعتاشت المافيات جيدا على العراقيين الراغبين في الاستقرار وسقف آمن، فكان مصيرهم الموت وبغموض. تبرز مع مأساة السفينة استونيا، فرضية، لو أن مهربا آخر، وهم كثر، نجح في التعاون مع المافيا الشيشانية أو الروسية، وقام بشحن مجموعة من العراقيين على ظهر السفينة الغارقة استونيا، فهذا يعني أنهم الآن هناك في قاع البحر، لا أحد يعرف باسمائهم ولا قصتهم.
مَن سيكشف اللغز بعد كل هذه السنين؟.