جاكلين سلام
حين قرأتُ خبر منج جائزة نوبل للسلام 2024 لمنظمة إنسانيّة يابانيّة، ذهبتُ للبحث في أرشيف الصور القديمة التي أخذتها في مناسبات حدثت في كندا ووجدت بينها صورة ناشطة من تلك المنظمة الإنسانيّة التي التقينا بها للاحتفال بذكرى مرور 60 عاماً على كارثة هيروشيما وناغازاكي في صيف تورنتو. وجدت الصورة وتذكرت صاحبة اللباس الأزرق التي نجت من القنبلة وكان عمرها 13 سنة حين ألقيت القنبلة على مدينتها اسمها "يتيروكو يونيو"
ورد في أخبار نوبل منحت جائزة نوبل للسلام لعام 2024 إلى منظمة نيهون هيدانكيو، وهي منظمة يابانيّة شعبيَّة للناجين من القنبلة الذرية لجهودها "من أجل تحقيق عالم خال من الأسلحة النووية"، وأشادت لجنة نوبل النرويجية بالمجموعة "لإظهارها من خلال شهادة الشهود أن الأسلحة النووية يجب ألا تستخدم مرة أخرى أبدا". تأسست المنظمة المعروفة باسم هيباكوشا، على يد الناجين من القنبلتين الذريتين اللتين ألقيتا على هيروشيما وناغازاكي عام 1945. وقالت اللجنة معلنة قرارها في أوسلو"في يوم من الأيام، لن يكون الناجون من القنبلة الذرية من هيروشيما وناغازاكي بيننا كشهود للتاريخ.. ولكن مع ثقافة الذكرى القوية والالتزام المستمر، فإن الأجيال الجديدة في اليابان تحمل تجربة الشهود ورسالتهم". حسب سي ان ان.
تذكار يوم 6 آب 1945
يوم لتذكر هيروشيما وناغازاكي في نيثن فيليب سكوير"مبنى بلدية تورنتو" حيث توجد رموز مثل، النافورة الخالدة من مدينة هيروشيما والماء الذي جلب من نهر ناغازاكي كتذكار كموقف ورمز لدعم السلام في العالم وخلوه من الأسلحة النووية. وهذا بعض ما قالته السيدة في ذلك اليوم: كان عمري حينها 13 سنة، في تلك الساعة رأينا الجحيم على الأرض، الجحيم بعينه. رأينا الصمت. لم يكن هناك صراخ. كان أنين وهمس وكانت الأفواه تهمس/ تتضرع .. تبتهل لقطرة ماء. ماء... ماء وكانت تنهض الأجساد من الرماد، تطلب الماء ثم تسقط ..تقف ثانية، تطلب الماء..تسقط ولا تنهض ثانية .. رماد.. جماجم.. موتى/ دخان... كان الموت يحصد السكان الآمنين أما من بقي حياً فلم يستطع أن يرى شيئاً. كانت عيونهم ملتهبة محمرة، يتعرفون على بعضهم من خلال الأصوات. هكذا ماتوا في جواري، هكذا أراهم في ذاكرتي الآن، يتعبني أن أعيد شريط الذاكرة كل سنة وكل مناسبة كي أخبر العالم عن قسوة المشهد المريع، لكنني نذرتُ نفسي مع أصدقاء آخرين للسلام وأقسمنا لتلك الأرواح أننا سنحاول وسنعمل من أجل ألا يتكرر هذا الرعب والإرهاب والموت في أي مكان آخر من العالم. كان فصلاً إرهابياً ارتكبته امريكا في اليابان بإلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما وناغازاكي قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية...".
ارقدوا في سلام، هذا الخطأ لن يتكرر. أقسمنا أننا سنواصل العمل حتى تختفي الأسلحة النووية من العالم" وأضافت السيدة- رسولة السلام والأمل: من منظور فلسفي وأخلاقي وإنساني حملناها شعاراً نحو عالم متوازن وإنساني وتنقلنا بها عبر العالم ولا نزال نواجه الكثير من الصعوبات والمآزق." كنتُ حاضرة في حديقة السلام مع آخرين وذهبت في نهاية الخطاب وأنحنيت لها وانصرفتُ مع حزن ودمع وأمل في شفاء العالم من الجنون المدمّر، وأخذت معي "طائر الكركي" الذي يتم توزيعه هناك.
ساداكو وطائر الكركي
ساداكو طفلة يابانية كان عمرها عشر سنوات حين ألقيت القذيفة على مدينتها ولم تقتلها مباشرة لكنها أصيبت باللوكيميا. ساداكو، التي كانت تفوز بمسابقات الجري في مدرستها، سقطت صريعة خائرة القوى. أمها والممرضة والأصدقاء يراقبون مرضها كل يوم ويأملون عودتها إلى القفز والرقص. الأم أرادت أن تشغل ابنتها بخرافة بيضاء، فقصت عليها حكايات. راحت الفتاة تصنع من الأوراق طيور الكركي أو الغرانيق، على أمل أن تتحقق الأسطورة في حكاية أمها، لكن الموت اختطفها قبل أن تصنع العدد المطلوب من الطيور. رحلت ساداكو وبقيت طيور الحلم كسيرة. أكمل أطفال المدينة صنع طيور الكركي لتعود ساداكو إلى الحلم.
وفي نفس الساحة قدمت الفتيات رقصات تعبيرية تصور الحالة الحالمة الموجوعة وفي نهاية الفقرة نزلن عن المسرح ليوزعن على الحضور ما صنعنه من طيور ورقية، طائر الكركي، من أجل الطفولة وعطشها إلى الحياة الآمنة. وفي آخر المساء كانت القوارب الورقية البيضاء تحمل شمعة الحلم وتبحر في بركة الماء المجاورة. غمستُ يدي في الماء واِلتقطت الصور للمصابيح الورقيّة.
لا للحرب والعنف في العالم
أعود إلى كتاب لباحث مهتم بالروحانيات والسلم ونبذ العنف هو الطبيب المشهور دوليا "ديباك جوبرا" وهو أمريكي من أصل هندي، طبيب وبروفيسور، يروج لفكرة الطب البديل وله أكثر من 90 كتاباً بعضها مترجم إلى العربية. في كتاب له بعنوان " السلام هو الطريق" صدر عام 2005 يتحدث عن كل السبل الممكنة لنبذ العنف ويشجع كل فرد لخدمة هذا الهدف.
في مقدمة الكتاب يضع كلمة لماهاتما غاندي " لا طريق إلى السلام، السلام هو الطريق" فتحت الكتاب الذي على الرف لدي، مسحت الغبار عنه وقرأت من جديد المقدمة التي كتبها ديباك جوبرا في كتابه يقول فيها بتصرف: كتب هذه المقدمة في سبتمبر 2004 مشيرا إلى آثار الحرب الامريكية على العراق عام 2003 ويأسف لعدد الضحايا من العراقيين والامريكان، ويذكر أن عددا كبيرا من القواعد الحربية منتشر في أمكنة مختلفة من العالم. يضيف "لا أدري كيف سيكون اليوم الذي سيقرأ فيه أحدكم هذه المقدمة، لا أستطيع أن أخمّن، ولكنني حتى وإن انتهت هذه الحرب تحديدا سيكون هناك عراك مع الإرهاب، مع التفجيرات الانتحارية، حروب أهلية وعنف في مكان ما من هذه الأرض... وسيكون هناك تهديدات بالقنبلة النووية ، امريكا، كوريا الشمالية وإيران. العنق سيكون مندلعا دون قدرة للسيطرة عليه. وبغض النظر عن أي يوم انت تقرأ هذا. "
أنا أقرأ هذه الكلمات وأنقلها وهي حقيقية جدا تشبه ما يحدث اليوم في اكتوبر 2024. يقول ديباك جوبرا " كي تقضي على الحرب، يجب أن تفكر ليس فقط في إنهاء معركة واحدة، أو ثلاثين، بل ما يجب فعله هو النضال من أجل التخلص من فكرة الحرب التي أصبحت"عادة الحرب" ويعتبر السلام، نزعة فردية يستطيع كل فرد أن يتعهد بها أمام بنفسه ليعيش مع نفسه بسلام.
هل يستحق السلام جائزة نوبل؟
وحده السلام يستحق الجوائز كلها في كل بقاع العالم وبكل المناسبات. ويستطيع كل فرد أن يكون رسول السلام في يومه، في بيته، في حارته، في كتابه وفي أحلامه بالغد الأجمل. كان ولا يزال هذا مطلب الكثيرين حول العالم وهو مطلب متجدد الآن أكثر من أي وقت آخر، حيث الدمار في فلسطين وفي لبنان، وقبلها سوريا والعراق وليبيا و..ليس حصرا. في البدء لم تكن القنبلة النووية. في البدء كان الماء يروي الحياة في صورها البكر.
* كاتبة ومترجمة سورية مقيمة في كندا