أمين قاسم الموسوي
من دواعي كتابتي هذه السطور عن الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور ما يلاحظ من اندفاع بعض من يكتبون أو يتحدثون مستشهدين بآراء فلاسفة الغرب ومنهم شوبنهاور، وكأن هذا الاستشهاد هو دليل على عمق الثقافة ودقيق الفهم، مع أنه قد يكون تعبيراً عن الشعور بعقدة الخواجة، عقدة الشعور بمركب النقص حين يقلد الضعيفُ القويَّ في حسناته وسيئاته، وأنا هنا لا أدعو إلى الانغلاق وعدم التفاعل مع الآخر، ولكنها دعوة مشروطة بالانفتاح الواعي والغربلة والحذر.
للحفاظ على هويتنا والسير في الطريق الصحيح اهتداءً بقول المهاتما غاندي "إِني لَأفتح نافذتي لكل الرياح واتحدى أياً منها أن تقتلعني من الجذور"، هكذا يجب أن نكون وخصوصاً فئة الشباب، إِذ يجب أن يحذروا فلسفة تقودهم إلى التشاؤم الذي يجسده شوبنهاور، الذي أوجز عنه ما يلي:
أولا ثقافته: كان والده من كبار التجار، فأرسله إلى صديق له عندما بلغ التاسعة من عمره، لكي يتعلم الفرنسية، وعندما عاد إلى هامبورغ كان التفرنس قد بلغ منه حداً، كما أتقن الانكليزية بعد أن أقام بصحبة والديه ثلاثة أشهر في انگلترا، حتى إن الناس كانوا يحسبونه انگلیزیاً،، كما انه انكب على دراسة اللغة اللاتينية، وتعلم كذلك اللغة اليونانية، وبناء على رغبة والده اِلتحق بإحدى ثانويات التجارة، ولكن موت والده المفاجئ، وعدم رغبة أمه باِكمال الدراسة التجارية جعلته يتجه إلى ما تهواه نفسُه، فالتحق عام 1809 بكلية الطب وسجل اسمه مستمعاً إلى المحاضرات في السيكولوجيا والمنطق، وفي رجولته اطلع على شيء من حضارة الهند القديمة.
ثانياً: فلسفته: كل الذين كتبوا عنه يعدونه فيلسوف التشاؤم الذي يبث اليأس حدّ الانتحار، وهذه هي حقيقته فهو في القمة من هذا الاتجاه، إذ يرى أَن: "الألم هو الحياة نفسها.. أما اللذة والفرح فليسا سوى عنصرين سلبيين" هذا الموقف السلبي من الحياة يجعله يرى أن: "مَن يسلم نفسه للموت يكون مُريداً للحياة" هذا الفهم يمثل منتهى التشاؤم الذي يقود إلى الانتحار، بغض النظر عن التفلسف في تفسيره وتعليله، ويوغل أكثر فيقول: "إن الشوق المتأجج الذي يبديه -الإنسان - نحو اشتهاء الحياة، والضراوة التي يتسلح بها عندما يصطدم بحواجز الحياة الطبيعية، وأقصد بها الألم، إِن كل ذلك هو الذي يجره إلى القضاء على نفسه" هذا الفهم يقود إلى موت الأمل، وشتان بين ما يرى شوبنهاور وما يرى شاعرنا الطفرائي حين قال: "أعللُ النفس بالآمال أرقبها/ ما أضيق العيش لولا فُسحة الأمل".
فشتان ما بين الموقفين، ولعل من غريب آراء شوبنهاور إضافة لِما سبق قوله: "ينبغي أن لا تكون بنا حاجة للآخرين" وهذا يعني أنه يطلب من البشر أن يتجاوزوا الحقيقة الكبرى وهي أن الإنسان حيوان اجتماعی، واجتماعيته هذه فرضت عليه أن يكون ناطقاً وعاقلاً، وكل هذا يعني أنه بحاجة إلى الآخرين لأنه لم ولا ولن يلبي كل حاجاته منفرداً، وما منطلقات شوبنهاور هذه إِلا اغتراف من فكر مثالي بعيد عن الحقائق الكونية والاجتماعية، فهو يقول: "ما كان للشمس أن تعتبر من الموجودات لولا إدراكنا لها"، فأجابه الشاعر الفيلسوف غوتيه: "بل الأَصح أن يقال: لولا طلوع الشمس علينا ما كان يمكن أن يكون لنا وجود" فشوبنهاور ينطلق في مثاليته من. أنا أفكر اذاً أنا موجود، أي إن المكان والزمان ليسا في الحقيقة سوی تصورات إِنسانيّة أو بعبارة أخرى كيفيات ذهنية، أما ردُّ غوتيه فينطلق من مقولة "أنا موجود إذاً أنا أفكر"، وهو منطلَق مادي يحمل مَن يسير على هَدْيه أن يكون واقعياً .
ثالثاً: رأيه في الحب والمرأة: قادته قناعاته إلى موقف موغل في السوء تجاه الحب والمرأة، فهو قد عاشر فتاة ايطالية من ڤينيسيا ردحاً من الزمن، لكنه لم يتزوجها، لأنه يرى: "إِن الزواج في هذا النصف من الكرة الأرضية الذي نعيش عليه والذي يسوده البناء بأمرأة واحدة هو كناية عن فقدان لِنصف الحقوق ومضاعفة الواجبات"، واذا ما غضضنا النظر عن المكان الذي قصده وهو أوروبا المسيحية، فقد فاته أن ثنائية الذكر والأنثى لا معنى لها عند الانفراد، وان الزواج بمفهومه الإنساني رباط مقدس تسمو به نفس الانثى ونفس الذكر، ولكن شوبنهاور انطلاقاً من تشاؤمه كان يرى المرأة تفاهةً، ولذلك وصَف أُمّه وعدّها أنموذجاً للنساء يقاس عليه، فقال: "إن للنساء شعوراً طويلةً وأفكاراً قصيرةً" فعبر عن موقفه تجاه أية امرأة ومنهن أمّه التي كانت على النقيض مما وصفها، إذ إِنها بعد موت زوجها أسست حلقة فكرية "صالون" كان يؤمه الكثير من كبار القوم ومنهم الشاعر الفيلسوف غوتيه و قد طورت موهبتها الأدبية فكتبت روايات نالت استحساناً وشهرة، ولم تنس دورها أُمّاً فكانت تنصح ابنها شوبنهاور بأن لا يمس الآخرين بما يسوء، ولكنه لم يكن ليستطيع أن يخالف تكوينه، فكان ينالُ من الجميع حتى سماه رفاقه "عشتروت الراعد".
رابعاً: عدائيته: تتجلى عدائيته في آرائه وعلاقته بالآخرين من الفلاسفة، فهو: "لم يكن يتكلم عن هيجل إلا بأن ينعته بالأبله المتصنع الثقيل الظل"، مع العلم أنه عاصر هيجل وزامله في جامعة برلين، وألقى محاضرات فيها، ولكن التوفيق والنجاح لم يحالفاه، لأن هيجل وقتئذ هو السيد المهيمن على الجامعة، ولم ينجُ من سهام شره حتى الفيلسوف "كانْت" والفيلسوف. سبينوزا ومن باب الطرافة أقول: إِن شوبنهاور يذكرنا. بالشاعر الحطيئة الذي سلاحه هجاء الجميع.. فأن لم يجد مَهجوّاً هجا نفسَه، فقال: "أرى ليَ وجها شوّهَ الله خلقه/ فقبحَ من وجهٍ وقبحَ حاملُهْ".
إن نفساً كنفس شوبنهاور لا يمكن أن تقدم ما ينفع في الأعم الأغلب، لأنها تبحث عما يضر وترى كل الاشياء بمنظار قاتم السواد.
خامساً: إِن هذا التشاؤم الذي هو عصارة أفكار شوبنهاور قد كسا حياته عزلة عاشها منبوذاً عن الحياة والناس حتى إن مؤلفاته لم تصادف نجاحاً، وكان الناشرون يترددون كثيراً في نشرها، ففي عام 1855 نشر آخر مؤلفاته في مجلدين، ولم يتمكن من نشرها إِلا إثْرَ وساطات وجهود لتلميذه وصديقه فرونستاد، و انطلاقاً من ثنائية الشر والخير، فأن لشوبنهاور القليل القليل مما يوضع في خانة الخير كوضعه صحة الإنسان على رأس سعاداته واعتباره القناعة مصدرا من مصادر السعادة، والحروب أعمال قرصنة ولصوصية، وتلك شذرات غطى عليها مجملُ فلسفته المتشائمة .
إِن ما أدرجته من معلومات عن شوبنهاور مُستقى من كتاب لأندريه كريسون بعنوان "شوبنهاور" ترجمه إلى العربية بلغة مشرقة واضحة بعيدة عن التعقيد والاخطاء، المترجم د. أحمد كوي، وقد ألحق في نهاية الكتاب شذرات لمؤلفين آخرين فيها إِشارات إلى جوهر فلسفة شوبنهاور المتشائمة.