د. عدي حسن مزعل
منذ أكثر من سنة تشهد المنطقة حرب إبادة يشنها الكيان المحتل على قطاع غزة. ومنذ أسابيع توسعت الحرب صوب لبنان. الغريب أن طوال زمن الحرب على غزة لم نسمع من يقول إن ما يجري مسرحية، فقط سمعنا وقرأنا البعض يتحدث عن مؤامرة على الشعب الفلسطيني عامة وسكان قطاع غزة خاصة. والمهم أن المصطلحين (مسرحية، مؤامرة) يرددهما بكثرة مواطنو منطقتنا. ولا غرابة إذا قلنا: إنهما أكثر المصطلحات تداولاً بين العامة، وحتى بين بعض من نسميهم النخبة المثقفة، خاصة عندما يتعلق الأمر بحرب أو انقلاب أو ثورة.
وهكذا استعمل المصطلحان وتداولا على نطاق واسع مع الحرب على لبنان. وحول الحرب، يخبرنا التاريخ، وهو ميدان مفيد لمن يعقل ويعتبر، بأنه لم تقع فيه حرباً بالاتفاق، وذلك منذ عرف البشر الغزو والسيطرة. أقصد أن التاريخ، ومنذ دول وإمبراطوريات ما قبل الميلاد وما بعده وإلى عصرنا الراهن (الأكثر حروباً وأشدها فتكاً)، حيث سجل التاريخ نادر وشحيح جداً بفترات السلام، لم يخبرنا، ولو مرة واحدة، عن حرب اندلعت بين القوى الكبرى أو بين اتباعها مما يمكن القول عنها إنها مسرحية يراد منها تحقيق مصالح وأهداف، وإن الأطراف التي تعادي بعضها البعض سواء خاضت حرباً أو لا، فإن ذلك لا يمت للحقيقة بصلة، الحقيقة التي يبدو أنها من أنتاج مخيلة ترى أن الحرب مجرد خداع، وذراً للرماد في العيون، وذلك حتى حين تقع وتحدث موتاً ودماراً.
هذه الثنائية التي لا مجال للتفكير خارجها، والتي تغيب عنها الوسطية والاعتدال، تكاد تكون صفة ملازمة للوعي السائد حول الصراع في المنطقة، بل هي الصفة الملازمة لمجمل وعي شعوب منطقتنا. وها هي تجليات هذا الوعي، الخاضع لثنائية تحبس الفكر وتموه على العقل، نجدها في أبهى صورها في الموقف من إيران، فهناك من يرى فيها الخير كل الخير، فهي بلد مقاوم ومناوئ حقيقي لأمريكا ومشاريعها في المنطقة، ومن يرى فيها عكس ذلك، من أنها وبالاتفاق مع أمريكا (وأحياناً مع الكيان الصهيوني رغم القصف المتبادل والاغتيالات والحرب غير المباشرة بينهم منذ عقود!) تنفذ أجندة ضحيتها شعوب المنطقة. وهكذا، فثمة سياسة متفق عليها، يراد منها الهاء دول المنطقة عن تحقيق أهدافهاً، وتعطيل مسيرتها، واستغلال خيراتها. في حين أن معظم هذه الدول لم تحقق أي هدف يعود عليها بالنفع، لا صناعة، ولا زراعة، ولا تعليم، فهي خارج التاريخ ولا تذكر فيه إلا بوصفها دولاً متأخرة يسودها الفقر والجهل والعنف، أو مصدراً للطاقة وسوقاً استهلاكياً للبضائع والمنتجات، ولذلك فهي في منزلة الهامش من التاريخ لا أكثر.
ينطوي خطاب القائلين بالمسرحية والمؤامرة على نظرة سطحية، يائسة، لا فسحة فيها للأمل والانتصار. يبدون وكأنهم دمى لا حول لها ولا قوة، تحركها على مسرح الأحداث القوى الكبرى، بل هم جماهير عاجزة تقودها حكومات لا إرادة لها سوى قهر شعوبها. علماً أن هذا النمط من الوعي لن نجد له نظير على الإطلاق. صحيح أن مصطلح المؤامرة يتداول بكثرة في العديد من البلدان، بما فيها المتقدمة، ولكنه في منطقتنا يمثل حالة مرضية، تتجلى لدى جماعات وأفراد ونخب. أما مصطلح مسرحية، حديث التداول، فهو علامة دالة على استفحال المرض واستقالة العقل معه.
ختاماً: لم أرد من الأمثلة السابقة الدفاع عن دولة أو شخص ما، فالدول في النهاية ليست جمعيات خيرية، ولكن أردت بيان مدى فقر وخواء أصحاب هذا الوعي، كما أردت بيان أن مشكلة أصحاب هذا الوعي تكمن في أنهم لا يريدون معرفة عدوهم كما هو، وإنما كما يريدون هم. وهكذا وعي مصير أصحابه الهزيمة لا محالة، وإن ظهروا حديثين في منطقهم ومظهرهم. هكذا علمنا التاريخ وما زال يعلمنا.