ناجي الغزي
في ظل السياق الجيوسياسي المتشابك والمعقد الذي يعيشه الشرق الأوسط اليوم، ومع احتدام الصراع بين الكيان الصهيوني ومحور المقاومة الذي يمتد من غزة إلى جنوب لبنان والعراق، وصولاً إلى اليمن وإيران، تبرز الأبعاد الاستراتيجية لهذا النزاع كأحد أبرز العوامل المؤثرة على استقرار المنطقة.
وهنا نستذكر التصريحات التي صدرت عن ديفيد وارمرز، المسؤول الأمريكي السابق عن الشرق الأوسط في إدارة ديك تشيني، تسلط الضوء على استخدام الأدوات الإعلامية كجزء من الحرب الناعمة لتنفيذ أجندات خفية. في وصفه الذي يحمل أبعاداً استشرافية، يشبه وارمرز الإعلام العربي بـ"إسطبل متعدد الوظائف"، حيث يتم استغلال "الأحصنة" لترويج السردية الغربية التي ترى في سوريا وإيران مصدر التهديد الأساسي، بينما يُستخدم "الحمير" لتصديق الخطابات المثالية حول الديمقراطية الغربية. أما "الخنازير" وفقاً لوصفه، فهي تلك الجهات التي تتجاهل وجود المؤامرات، رغم أنها تستفيد من نتائجها في صياغة واقع سياسي وإعلامي معين.
وفي هذا السياق يعزز الجنرال ويسلي كلارك هذه النظرة بمزيد من التفاصيل الاستراتيجية، عندما كشف عن دعم واشنطن المباشر وغير المباشر للتنظيمات الإرهابية، بما في ذلك داعش، من خلال شبكات حلفائها في المنطقة.
هذا التداخل بين المصالح الإقليمية والدولية يخلق ديناميكيات جديدة على الأرض، حيث أصبحت الأطراف المتصارعة تسعى لتحقيق أجندات تتجاوز حدودها الوطنية إلى مصالح أوسع تتعلق بإعادة رسم
خارطة النفوذ الإقليمي.
إزاء هذه المعطيات، يصبح الإعلام أداةً استراتيجية في يد الأطراف المختلفة. لا يمكن فهم الأحداث الجارية بمعزل عن الدور الذي تلعبه القنوات الإعلامية الكبرى في إعادة تشكيل الرأي العام العربي والدولي. هذه القنوات، عبر تحريف الوقائع وتزييف الحقائق، أصبحت جزءاً من آلية سياسية تهدف إلى خلق بيئة مشوشة تعيق الإدراك العميق للأحداث وتضلل الجماهير عن حقيقة الصراع بين الخير والشر، الخير الذي يمثله محور المقاومة، والشر هو الكيان الصهيوني ومن يدور في فلكه. فالتناقضات التي تملأ المشهد الإعلامي والسياسي ليست محض صدفة، بل هي جزء من استراتيجية تهدف إلى إضعاف مواقف القوى المعارضة للمشروع الصهيوني في المنطقة.
ما تتم تسميته بـ"المؤامرة" هنا لا يأتي من فراغ؛ بل هو توصيف لواقع تديره قوى خفية تعمل على إعادة تشكيل المنطقة بما يتناسب مع مصالحها. هذه القوى، سواء كانت إقليمية أو دولية، تعمل بخفاء ودهاء لتنفيذ سياسات لا تعترف بسيادة الشعوب وتطلعاتها نحو الاستقلال والازدهار. المرحلة القادمة قد تحمل تغيرات جذرية، خاصة مع تصاعد التوترات واشتداد المواجهات العسكرية والسياسية. فالنظام الإقليمي الذي يتشكل في هذه اللحظات سيكون محكوماً بالتوازنات الجديدة التي ستفرضها هذه الصراعات.
وعليه، فإن النداء يبقى موجهاً إلى كل القوى الوطنية الفاعلة في المنطقة، خاصة في العراق، الذي يُعد مركزاً لهذه المعادلة الصعبة. إن الاستمرار في دوامة الانقسامات السياسية والصراعات الداخلية لن يؤدي إلا إلى تعميق الأزمة، وزيادة التبعية لقوى خارجية تسعى لإعادة رسم ملامح المنطقة على حساب المصالح الوطنية. اللحظة الحالية تفرض على الجميع أن يدركوا أن التحدي القادم لن يكون في مواجهة عدو خارجي فقط، بل في القدرة على تجاوز الخلافات الداخلية لبناء جبهة وطنية قوية قادرة على الصمود في وجه هذه التحديات المتعاظمة.
التاريخ كما يقال، لا يرحم من يكرر أخطاءه. وما نشهده اليوم هو تكرار لمأساة الماضي، لكن في سياق أكثر تعقيداً وخطورة.