سعد صاحب
الإنسان السليم صحياً، المتوازن في الأفكار والمشاعر والسلوك والعواطف، يتباهى بأحزانه وهمومه ومعاناته المستمرة، وما أجمل الألم القادم من جهة الجنوب، ومن جهة التضحية والحب والنبل والعطاء والفضيلة، والثبات على الموقف الإنساني النبيل . وما أقبح الوجع القاتل، بسبب الخيانة والنكوص والأنانية ولوثة الضمير والنحس والتشكيك والتراجع، وبسبب الهروب من مواجهة الذات، ومن مواجهة المرايا حينما تحاصرك فيها الوجوه المعتمة، وحين تشير إليك الأصابع، بالإدانة والتقصير وعدم الوفاء والتهم الباطلة. (عاگول الجفن لوما غمض ليله / وبرديه الظهر لوما يشد حيله). والشاعر يشكر الأحزان والمواجع والجراح والمنافي والسجون، لأنها فتقت بداخله ينابيع الكتابة المبدعة، وأبعدته عن رذيلة الانتقام، وعودته على تحمل الكثير من المصاعب، وبنت شخصيته الطيبة المسالمة، فالشخص ليس كتلة من لحوم ودماء تسير في الشوارع، بل هو تاريخ ناطق بالحقيقة، وعقل مدبر عند اشتداد الصراع، وإرادة لا تلين مهما واجه الفرد المكافح العراقيل، والأهم أن يبقى خيراً يقاوم الشرور، والبطولة، وأن يعانق المرء ألمه، كما يقول الشاعر الهندي طاغور. (همومي چن حريجه وسرت بيهه الريح / كلت ثوب اليتيمه وحرگت الشيله).
امرأة صالحة
الرجل الشجاع أشرفت على تربيته امرأة صالحة، كانت تعده للبقاء في الوطن، والدفاع عن ترابه المقدس وسد الثغور، واليوم نشاهد هذا الكلام جلياً في واقعنا العربي المأزوم، المليء بالموت والدمار والسموم والحرائق والدخان والأتربة والروائح الكريهة. والأم القتيلة بقنبلة غادرة، مجبرة على ترك طفلها في ساحة الجحيم، ينوء بحقائب السفر والأسمال ونقاط التفتيش والشرطة المدججين بالسلاح والأفق المسدود، وبالأسماء الوهمية والجوازات المزورة والأعباء الثقيلة وتلويحة الوداع، حينما يكبر لا ينساها ويبقى يستذكرها بافتخار، ويتذكر الآهات والأوجاع والأغاني وأيام الرضاعة والغبار والوهاد والرحيل، والأغنية التي تغنيها الأم في المهد، تظل تسمع حتى اللحد كما يقول بيكون. (رضيع انشلت امه وحضنت الكاروك / بيا أيد التهزه لو تلوليله).
وليمة للحب
هناك صور شعرية جامدة خالية من الروح، تتأرجح بين الضيق والجمود والتكرار والرتابة والملل، وليس لها حضور يذكر ما بين الأعمال الأدبية الأخرى، فهي عديمة الأصالة والجدة والابتكار والإثارة، تبث في النفوس القتامة واليأس والقنوط والسخط والانكسار والهزيمة، وفكرتها التشاؤمية تسيطر على النفوس، وتقتل فيها التفاؤل والأمل والبهجة واللحظة المشرقة والعنفوان، والسؤال الذي يحتاج لأكثر من جواب، هل الزمان الذي يعادي البشر؟ أم نحن الذين نعادي الزمان؟ ثم نكثر من البكائيات والنواح والرجاء
والشكوى.
(لعب بيه الزمان وهل غداني ارماد / وجايب طبلته ويريد اغنيله ). القلب مهرة جامحة في براري الغرام، لا تكف عن الركض والسباق وقطع المسافات الطويلة، وبعد خسارات عديدة، تخفى بذكاء وحنكة ومراوغة والتفاف حول الموضوع، يعود من أسفاره ينزف الدماء، ويسيل من شرايينه الندم، لكنه يعاود التجربة من جديد كلما يتوب، وما القلب إلا وليمة للحب، بحسب الشاعر الياس أبو شبكة. (وكح ما يدري بحوالي اشجره وشصار / ما يدري الگلب بطل
مواويله).
الواهب العظيم
أعظم الناس من يضمد الجراح النازفة، ويستر العيوب والنقائص والفضيحة، والإحسان من أروع الأشياء في الحياة، وفعل الخير يغطي على جميع الذنوب، وهو لن ينسى مهما كان قليلاً، والإسراع في العطاء يعنى العطاء مرتين، كما يشير المثل الفرنسي .والإنسان المبتلى بالمصائب يبحث عن كوة للخلاص، يبحث عن يد تنتشله من بئر الأحزان، يبحث عن منقذ يرفع الصخور الجاثمة من فوق صدره الجريح، ويفتح الأبواب المغلقة، أمام العيون المتعطشة لرؤية النور، ويسارع بكسر القيود وتذليل الصعاب، ويطلق المبادرة بالنقاش والتساؤل والمشاركة وإلغاء الحدود، ولكن في زمان النذالة والحقد والصراعات والحروب والممنوع، في أي زاوية من العالم، نجد ذلك الواهب العظيم؟.(چبير البخت عدنه المالچم مجروح / وين الگه چبير البخت واشكيله ).
البيت الأخير يعبر عن غربة الكائن الجنوبي المهجور، لوحده في مكان مغلق، بلا أهل ولا أصدقاء ولا معارف ولا سلوى، المنسي مثل هاون متروك في مضيف قديم، يعاني من الصدأ والإهمال والنسيان والوحشة، يشفق على نفسه من شدة الاحباط، ويحن إلى أيام السمر والعشق والهيل وفناجين القهوة والوصال والمحبة. (مثل هاون الربعه الزنجراه البين / ظل يبجي اعلى حاله ويحلم بهيله).