الشاعر والقفص

ثقافة شعبية 2024/10/31
...

كاظم غيلان 




 "إنك لن تولد للموت، أيها الطائر الخالد" 

هذه جملة للشاعر الانكليزي (كيتس) تحمل دلالات افترضتها بما ينسجم تماماً مع راهن شعرنا وتعقيدات حياتنا المتعددة .

لعل الحرية هي الفضاء الوحيد الذي يتسع للشاعر على العكس من كل ماهو مضاد للفضاء.

الشاعر وبحكم انتمائه للحرية لا يرتضي وضعه في قفص يحد من حركته في التحليق وتحديد رؤيته للكون بمجمل مدياته، وهنا فالفضاء هو الحرية، أما القفص فهو موت الطائر _ الشاعر .

شعوب تتضور جوعاً بحكم ما يفرض عليها من حصارات، تهلك، تموت من أجل حريتها. فبدونها لا يمكن أن تعيش إلا برؤوس مخذولة 

ذليلة.

في راهن نعيشه تعددت الأقفاص وذهب إليها شعراء، ذهبوا لموتهم البطيء بعد أن غادروا ذلك الفضاء الذي خلق لهم عند ولادة تجاربهم .

الايديولوجيا لعلها القفص الأكبر، ومنه ولدت أقفاص تليها أخرى بأحجام مختلفة، ولربما متساوية، لكن بالنهاية فهي أقفاص يعرفها أسرى الحروب أكثر من غيرهم، وشعراء الأقفاص أسرى كذلك، لكن بدون حروب، لقد اختاروا حياة الأقفاص التي تتعارض تماماً مع ذلك الفضاء المطلق الذي أتاح لهم حربة التحليق واتساع الرؤى وما توفر من هواء 

نقي.

نعيش اليوم عالم الأقفاص، فـ (قفص العشيرة، المنطقة، النقابة، الطائفة ....الخ).

لكل من هذه الأقفاص قوانينها الصارمة التي تحد حركة ساكنيها، صاغ مجملها نقاد ومحللون ومشرعو قوانين، جميعهم اتفقوا على أحكام فتحات الأقفاص بأقفالهم ارضاء لرغبات مالكيها طمعاً، بفتات موائدهم، وهذا هو شأن النقاد دائماً، فلهم القدرة أن يرسموا خرائط لجبال الدنيا كلها وبمختلف ارتفاعاتها، إلا أنهم غير قادرين على تسلق متر واحد منها بحسب ما يراه

(ا. مكليش).

في شعر العامية ازدهر سوق الأقفاص وشهد رواجاً كبيراً بعد أن شهد الوعي تراجعه وتقدم صفوفه حملة (بيارغ) الهوسات التي لا تشم منها سوى روائح التخلف والأمية المزمنة، هؤلاء الذين وصفهم الشاعر الراحل عزيز السماوي، في حوار سبعيني معه بـ (المصابين بالجرب الفكري والعقم الفني) الذي ثبتته مفردات لا تنتمي إلا لقواميس لغة الثأر والحقد والتشهير والتنكيل .

وتبقى ثنائية الحياة والموت قائمة مستمرة، تلك هي ثنائية الشاعر والقفص .