العمل الفني والقيمة الفكريَّة

منصة 2024/11/03
...

 رندة حلوم

لا يخلو أي عمل فني متكامل من قيمة. لكن ما الذي يحدد هذه القيمة، وهل هي ذات مفهوم ثابت، أم تختلف بحسب أركانه المتحورة حول "الفنان، العمل، المتلقي" وكيف يبدو دور البيئة في استقراء هذه القيمة، ثم هل هي متغيرة وفقا لمرحلة زمنيّة معينة أم لا؟
لقد تحدث العديد من التشكيليين العرب عن مفهوم القيمة في العمل الفني بين الشكل والمضمون والتجسيد والرسالة، وقال الفنان محمد أسعد "سموقان": "عندما نعرف كيف يمكن أن نرى ما يكمن وراء سطح اللّوحة؟ وكيف نرى اللّامرئي من الأشياء، فتكون هذه هي الخطوة الأولى التي تحدد قيمة العمل الفني، في محاولة للوصول إلى بصمة الفنان. والمشاهد هو الذي يعطي القيمة للعمل، يكتشف بصمة الفنان  الذي ينتمي لبيئة ما،  فيرى العناصر البصريّة من خطوط وألوان وأشكال تتنفس بحريّة تامة على سطح اللّوحة، وتلك الّسياقات البصريّة هي التي تعطي القيمة للعمل الفني بعيداً عن دلالته.
تجسيد الواقع
أما الفنان التّشكيلي عدنان الخشمان فيرى أن القيمة في العمل الفني تكون عظيمة بقدر ارتباط الفنان بواقع مجتمعه الذي يعيش فيه، فكلّما كان العمل الفني المطروح للمتلقي ملتصقاً بالواقع، وكان مجسداً لموضوع اجتماعي معاش، كلّما كان ذو قيمة فنية عالية ،والعكس صحيح.
وقال إن "المجتمع بكلّ ما فيه من مستند تاريخي وإرث حضاري، وكلّ ما ينتج عنهما من عادات وتقاليد وأعراف، يكوّن الإطار الذي من داخله يُعرض العمل الفني، وكلّ تلك المكونات مجتمعة  هي التي تحدد قيمة العمل الفني، والقيمة هنا ليست ضدّ الجمالية كمفهوم، بل هما معا تحددان قيمة العمل الفني، التي بدورها تختلف من متلقي  إلى  متلقي آخر وتتبع للنظرة الزّمكانية العامة لمجتمع ما".
الرّسالة أوّلاً
وقال الفنان التشكيلي نواف سليمان إن نقاد الفن يختلون في تحديد القيمة في العمل الفني، فمنهم من يرى أنّ البعد الجمالي هو المهم، ثمّ البعد الكامن في الرّسالة التي يقولها العمل وكذلك الفنانين. وقال إنّ "الرّسالة يجب أن تأتي أوّلا، والبعد الجمالي يأتي كإطار للرسالة وهو مهم، وبالطبع البعد الجمالي وعناصر العمل تأتي محصلة للأسلوب الذي يتبعه الفنان. فهناك لوحات تختصر قصّة قصيرة، أو حدث معين، أو رواية فيها أحداث كبيرة كلوحة(الحرب الأهلية) لبيكاسو، أو تؤرّخ لحدثٍ مهم كلوحة (سقراط يشرب السّم)".
وباختصار الفنّ ونقد الفنّ، يعتقد سليمان أنه بحاجة لثقافة واطلاع واسعين، يجب القول إنّ الفن الحديث (الجرافيتي مثلاّ) على جدران الشّوارع تنامى بشكل ملحوظ عندما حمل رسالة، و(بانكسي) هو نموذج حي.
وأضاف أن "القيمة يجب تحديد ماهيتها، إن كانت محرضة على الخير، أو تمجد انتصار معين، أو تطرح سؤالاً على النّاظر، ويجب أن يكون سؤالاً خارجاً عن المألوف. كلّ هذا تحدده الذّائقة الفنيّة، وهي نسبيّة أيضاً".
الشّكل والمضمون
أما النّاقد التّشكيليّ علي الراعي فيعتقد أنه لا يمكن الحديث عن قيم العمل التّشكيلي، إلّا من خلال إضافة قيم جماليّة وفكريّة للوحة أو المنحوتة.
وقال إنه "مهما حجم هذه الإضافة، لإن (الإبداع) فيما يعنيه؛ هو القدرة على الإضافة، والإضافة في القيم الجمالية تذهبُ في منحيين، الأول هو القيم البصريّة التي يقع على عاتقها تقديم المتعة الخالصة، والثاني يتعلق بالقيم الفكرية والبحثيّة التي عليها توصيل غاية فكرية للمتلقي.
ومن وجهة نظري بالنّسبة للعمل التّشكيليّ أميل إلى غلبة الجماليات البصريّة على الفكريّة، ذلك أنَّ أي عمل إبداعي- ومهما كان نوعه- لابدّ أن يقدّم متعة ما، وهي أكثر ما تظهر وتتجلى في الفنون البصريّة ولاسيما التّشكيل (اللوحة، المنحوتة).
وتابع: تأتي بعد ذلك القيم الفكريّة التي هي غاية العمل الإبداعي، والتي غالباً ما يُشار إليها بالمضمون، وهو الأمر الذي يأخذنا لمسألة (الشّكل والمضمون) حيث لا شكل دون محتوى أو مضمون، ولا مضمون دون شكل، ولا يعدو أمر الفصل بينهما سوى للدراسة وحسب،  ومن ثمّ القيم الجمالية المضافة هي الموزعة في هذين المنحنيين، وكلّما كان حجم هذه  الإضافة كبيراً سيكون العمل الفني مبتكراً ومُفارقاً"
بين المؤيد والمعارض
من جهتها، قالت الفنانة التّشكيليّة لما ناظم مهنا، إن "قيمة العمل الفني تكمن بالفكرة الحاملة لها، فلا يوجد تكوينٌ ما خالٍ من فكرة، حتى وإن كان هذا التّكوين عبثيا، فلا بدّ للعقل البشري أن يستوحي منها رسالة ما، أو منظور معين، وإن كان العمل الفني منظماً فهذا يجعل منه حاملاً للرسالة بشكلٍ أوضح، لكن الفكرة ما هي إلا أعماق الفنان، وما يختلج في  نفسه وعواطفه وعالمه الدّاخلي و اللّاشعور الخاص به".
وأضافت: هنا ينقسم المشاهد لعمل فني ما أو القارئ للرواية، أو المستمع للشعر، بين مؤيد ومعارض للعمل الفني، وعند التأييد أو المعارضة يثبت العمل الفني أنّه ليس مجرد أداة ترفيهية، أو سبيل للاستمتاع بالجمال بل أيضا قد يتحول لقضية، ومثال على هذا لوحة (العشاء الأخير) لدافنشي.
مفهوم تعددي
أما الفنان بهجت داهود، فقال: قد لا توجد قيمة واحدة ينبع منها العمل الفني، بل قيم متعددة من شأنها تحول العمل الفني إلى شيء ذو قيمة كبيرة.
وأضاف أن: من أهمها "في تقديري" هي الفكرة التي يقدّمها الفنان، وما تحمل هذه الفكرة من فائدة تنعكس على الفرد والمجتمع، لأنّ الفنّ هو صياغة الفكرة التي تحمل هذه الفائدة  لتخلق المعنى بأداتها الذّكيّة عندما لا تكون الكلمة كافية لتعبر عن أهمية هذه الفكرة، وأهميّتها في تفسير محتواها في التعبير عن افكارنا ومشاعرنا وما نشعر به،  فضلا عن الاسلوب وقدرة الفنان وثقافته
الفنيّة".