عواطف مدلول
لم تكن نهاية الحياة تلك الخسارة المادية التي لحقت به بعد فشل مشروعه مع صديقه، هكذا كان يردد دوماً مع نفسه، محاولاً اقناعها بقبول الأمر واعتباره عادياً، لكن في الحقيقة كلما تذكر فقدان أمواله بهذه السرعة بعد جهد وعناء شعر بغصة في قلبه، وأحاسيسه المكبوتة منذ مدة، بدأت تحوله لإنسان آخر غير ذلك الذي يتمتع بروح الدعابة، فقد عرف بشخصيته الفكاهية الحيوية التي تميل للمرح وابتكار النكات والقصص المضحكة، حيث اختار أن يعتكف بالبيت في أغلب الأوقات، ويتجنب اللقاء والاختلاط بالناس كثيراً، وإن حصل وخرج فإنه أضحى قليل الكلام دائم الصمت، وبالتالي فإن علاقاته الاجتماعية أخذت تسوء حتى مع أقرب الناس إليه.
صدمته برفيق عمره وأيام طفولته الذي خدعه جعلته يعيد حساباته بالتعامل مع الآخرين، وعلى إثر ذلك أصبح يغرق لا إرادياً بالعزلة يوماً بعد آخر، ويتخبط وسط دائرة الضياع التي تحيط به من كل الجهات، وحتى لا يستسلم لذلك الوضع فكر بطريقة سهلة ينقذ بها ما تبقى منه، بواسطة صنع وخلق حياة أخرى، يعيد فيها تلك القوة التي تساعده في مواجهة ما حصل معه، فعثر على الحل السحري لتحقيق ذلك، من خلال الهروب إلى العالم الافتراضي، وإن كان وهمياً، واستطاع بفترة وجيزة أن يعيش أجواء المغامرات العاطفية، ويخوض النقاشات والحوارات بمواقع شتى، وينفصل عن الواقع تماماً، ليفتح نافذة واسعة له من الأمل.
اكتشف أن التواصل مع الغرباء الذين يجهلون عنه كل شيء حتى اسمه الحقيقي، يوفر فرصاً ممتعة ومثيرة للتعارف، وبالإمكان أن يشغل وقته مع أناس يتعافى بالحديث معهم من تجربته الصعبة، وما يسهم في التخفيف من ضغوطاتها وآثارها السلبية عليه التفاعل مع بعض الكروبات والصفحات ذات التوجهات المختلفة، لذا أصابه الهوس بها ودون وعي منه تغيرت مواعيد نومه واستيقاظه والأزمنة عنده، فما عاد يفرق لديه النهار من الليل، ولأنه عاطل عن العمل ولا يمتلك وظيفة حكومية صارت قضيته الأساسية واهتمامه الرئيس، انتقاد الحكومة والوضع والمجتمع والزمن وكل من يقف برأيه عائقاً أمام طموحاته، فوجد بين أجهزة الحاسوب والموبايل وما تتضمن من برامج، فضاء واسعاً يتنفس بحرية فيه بعيداً عن السجن الذي كان يعاني منه ويكاد يخنقه في الخارج.
إلا أنه لم ينتبه لصحته التي بدأت تتجه نحو الهلاك وتتدهور تدريجياً جراء الانغماس الكامل بتلك الحياة السرية (الرقمية) المظلمة، التي تجره أحياناً للقيام ببعض الأفعال الضارة والسلوكيات الخاطئة، فتبدلت من كونها حلماً وردياً إلى كابوس مخيف، لا يمكن أن يصحو منه إلا بعد أن يتسبب بدماره كلياً، أما أن تتأزم حالته أكثر، أو بالعكس قد يتغلب عليه حينما ينبض نوره ويتعلم الدرس.