النظام الحزبي والديمقراطية
د. خالد عليوي العرداوي
يعد الحديث عن الديمقراطية بدون أحزاب سياسية حديثا غير مستقيم ولا موضوعي، فالأحزاب السياسية ركيزة أساسية من ركائز الديمقراطية، وبدونها لن يكون للحكم الديمقراطي وجود حقيقي، بل إن دورها فاعل - أيضا- في ترسيخ المسار الديمقراطي لأي دولة، وقيادة عملية التحول من مرحلة التفرد والاستبداد بالسلطة إلى مرحلة المشاركة السياسية.
ويبرز الدور الإيجابي للأحزاب عند قبولها الحاسم بالديمقراطية كنظام حكم ونظام حياة، وعدم انقلابها على نتائج الخيار الديمقراطي المعبر عنها بالانتخابات، سواء ربح فيها الحزب ام خسر، طالما ان الانتخابات جرت بطريقة نزيهة وشفافة، وتمت في ظل تصويت شعبي حر تتساوى فيه فرص الأحزاب المتنافسة، مما يفضي إلى تبادل سلمي للسلطة بين الأحزاب الرابحة والخاسرة.
فضلا عمّا تقدم، للأحزاب أهمية لا غنى عنها في توطين منظومة القيم المدنية الديمقراطية، من خلال مساهمتها الفاعلة في نشر روح الحوار وتبادل الرأي والرأي الآخر عبر الفضاء الوطني، مما يشيع روح المواطنة المتساوية، ويكسر أسوار التخندقات الضيقة حول الولاءات الفكرية والاثنية المختلفة، وهذا بدوره يساعد على رفع مستوى الوعي المجتمعي بضرورة الاهتمام بالشأن العام، والمشاركة في القرارات التي تصب في مصلحة الوطن والمواطن.
وكل هذا البناء الديمقراطي للدولة والمجتمع يصبح مجرد سراب بدون أحزاب فاعلة وحياة حزبية سليمة، لكن التجربة التاريخية للأحزاب تكشف أنها لا تلعب دائما دورا إيجابيا في عملية التحول الديمقراطي، بل على العكس تلعب -أحيانا- دورا سلبيا للغاية في اجهاض تجربة الديمقراطية واسقاطها في حالة الفوضى السياسية أو في فخ الانتكاس والتقهقر لمصلحة الاستبداد والحكم الشمولي، وذلك لأسباب عديدة، أبرزها:
- عدم ايمان الأحزاب السياسية – كلها أو بعضها- بالديمقراطية، وتشكيكها بجدواها، واتخاذها أحيانا غطاءً للوصول إلى السلطة، ومن ثم الانقلاب عليها وتصفية مظاهرها لمصلحة حكم دكتاتوري مستبد، كما هو الحال مع الحزب الوطني الألماني (النازي) سنة 1934 حيث استغل الديمقراطية للوصول إلى السلطة، وبعدها شرَّع في تشكيل أبشع حكم فردي استبدادي عرفه القرن العشرين.
- وجود أيدولوجيات حزبية متباعدة بشدة سواء إلى اقصى اليمين ام إلى اقصى اليسار، في ظل غياب شبه كامل للقيم المدنية التي تقرب فيما بينها، فالقيم في هذه الحال تلعب دور السمنت الذي يشد الأحزاب إلى بعضها ويمنع تباعدها وتصارعها وتهديمها للبناء الديمقراطي، ومع وجود الأيديولوجيات المتباعدة وغياب القيم الرابطة تختفي التنافسية الإيجابية بين الأحزاب، وتحل محلها التصارعية السلبية.
- ذوبان وتلاشي المصلحة العامة في الحياة الحزبية، وتغول المصالح الخاصة الفردية والفئوية والحزبية، وعندها لا يكون هدف الحزب السياسي تحقيق مصلحة وطنه ومواطنيه، وانما تحقيق مصلحة حزبه ومناصريه، فتتراجع قيم النزاهة والأمانة والكفاءة والحوار وقبول الآخر.. فيكون ثمن ذلك هو تدمير منظومة القيم الديمقراطية، وغياب الشعور بالمواطنة.
- عدم احترام سيادة القانون، واتخاذه لعبة بيد الأحزاب المتنفذة توجهه وفقا لما تقتضيه مصالحها، فتصبح مقولة الناس سواسية امام القانون فكرة جوفاء غير قابلة للتطبيق الا على الفئات الهشة والضعيفة من المجتمع، وهذا الامر سيترك تأثيراته الخطيرة في اضعاف دور المؤسسات الدستورية، وفقدان ثقة الناس بها.
- تحول السلطة من اداة تطلبها الأحزاب لتطبيق برنامجها السياسي إلى هدف بحد ذاته، اذ يطمح كل حزب في السيطرة عليها لتوظيفها في تهميش أو تصفية معارضيه، وهذه العقلية تدفع الأحزاب إلى تجاهل دور صندوق الاقتراع في الوصول إلى السلطة، وتستعيض عنه بمدفع الرشاش، مما يخلق الفوضى السياسية تارة، والانقلابات العسكرية الدموية تارة أخرى.
مشكلة الحياة الحزبيَّة في العراق
بدت الحياة الحزبية في العراق واعدة وعقدت عليها الآمال بعد تأسيس دولته الحديثة سنة 1921، إذ ظهرت الكثير من المنتديات والصالونات السياسية كنادي المثنى وجماعة الأهالي، كما ظهر عدد من الأحزاب السياسية المعتدلة كالحزب الوطني الديمقراطي... وكان هناك تداول سلمي مسيطر عليه للسلطة، ولكن الديمقراطية العراقية، التي احتضنت هذه الأحزاب والفعاليات السياسية كانت هشة قيميا ومؤسساتيا، ولذا لا عجب أن يجري أول انقلاب عسكري في المنطقة العربية في العراق سنة 1936 بتواطؤ بعض القيادات السياسية مع الفريق بكر صدقي قائد الفرقة الثانية في الجيش وعدد
من زملائه العسكريين.
لقد عجزت أحزاب العهد الملكي عن إبقاء العلاقة بينها محصورة في حدود التنافس الحزبي الإيجابي، فأخذت تدريجيا تتوسل بالاستقواء بالعسكر للوصول إلى السلطة والبقاء فيها، وحبذت كثيرا الحلول السريعة (الانقلابات العسكرية) على طاولة الحوار والتفاهمات السياسية (السبل الديمقراطية)، وهذه العقلية جعلتها تختط لنفسها مسارا أوصلها إلى اسقاط النظام الملكي برمته سنة 1958 على يد الزعيم الركن عبد الكريم قاسم ورفاقه في تنظيم الضباط الاحرار.
ولم يحاول من جاء بعد العهد الملكي الحفاظ على أفضل مكتسباته وهو وجود الديمقراطية، فالأخيرة على عللها ومثالبها كان ينبغي النظر اليها كمكسب ثمين لنظام الحكم في العراق يتوجب رعايته وصونه وبث الروح فيه، إلا أن الشيء المؤسف هو أن العهد الجديد ضحى بهذا المكسب، وزاد الطين بلة بروز وتطور دور الأحزاب التي تحمل أيديولوجيات شمولية متصارعة ومتقاطعة فيما بينها كالشيوعية والقومية والإسلامية، وتآمرها بعضها على البعض الآخر مستقوية بولاءات خارجية تارة، وبالعسكر تارة أخرى، والسلطة وادواتها الاكراهية تارة ثالثة.
وفي ظل هذه الأجواء ضعف احترام القانون والمؤسسات الدستورية، واهتزت الثقة بين السلطة والشعب، فيما تمددت قيم المحسوبية والولاء والتطرف والتفرد والتركيز على المصالح الضيقة، ولذا لا غرابة أن تعصف بالبلد سلسلة متتالية من الانقلابات العسكرية الدموية، وتمتلئ السجون بعشرات الآلاف من السجناء السياسيين وغير السياسيين، وتسود الحياة السياسية ثقافة التآمر بين طلاب السلطة، فيما تتم التضحية بالمبادئ والأيديولوجيات على مذبح الطموحات السياسية...وقد بلغ هذا الانحدار الحزبي ذروته بعد انقلاب البعث في تموز سنة 1968، وبعد هذا الانقلاب تم تسريح اكثر من ثلاثة آلاف ضابط عراقي بحجة التآمر أو عدم تأييد الانقلاب، ما جعل المؤسسة العسكرية تخسر خيرة كفاءاتها، كما تم زج اكثر من ثلاثمئة شاب بعثي في دورة ضباط سريعة مدتها ثلاثة اشهر من اجل توزيعهم بين الوحدات العسكرية كمسؤولين للتنظيم الحزبي البعثي في هذا الوحدات، مما جعل كبار ضباطها يخضعون للمراقبة وتوجيه الأوامر لهم من هؤلاء الضباط المؤدلجين الصغار، ناهيك عن القرارات المدمرة الخارجية والداخلية التي اتخذها نظام البعث الشمولي، كقرارات: الحرب العراقية -الإيرانية، وغزو الكويت، والتهجير القسري، والمقابر الجماعية، والتصفية السياسية...وصولا إلى حرب الخليج الثالثة التي انتهت باحتلال العراق وتدمير ما تبقى من قدراته سنة 2003.
وبعد الغزو الأمريكي انطلقت مرحلة سياسية جديدة في تاريخ العراق تشبه كثيرا مرحلة العهد الملكي (1921-1958) من حيث وجود ديمقراطية هشة تحتاج إلى من يرعاها ليقوى عودها: قيميا ومؤسساتيا، ولتتطور وتترسخ كتجربة عراقية ناجعة في الحكم الديمقراطي السليم، ولكن الشيء المؤسف هو أن عقلية بعض القيادات والأحزاب السياسية ما زالت تحمل الكثير من سلبيات الحياة الحزبية، واذا لم تلتفت هذه القيادات والأحزاب لنفسها، وتصحح أخطاء من سبقها.
باحث وأكاديمي عراقي