التنكيل بالحقيقة

ثقافة 2024/11/06
...

أحمد عبد الحسين
التنكيل بالحقيقة على أشدّه هذه الأيام.

شعوب تنام، إذا استطاعت النوم، على رعبٍ من أن لا يكون لها غدٌ، وتستيقظ، إذا استيقظتْ على صواريخ تدكّ البيوت والمستشفيات ودور العبادة. بشر يقتلون بالآلاف أطفالاً ونساء وشيوخاً. وفي الضفة الأخرى شعوب تصطفّ فريقين: واحد مع القاتل وآخر مع القتيل وربما وجد فريق ثالث لا يأبه لما يحدث.

المحزن في الأمر أنّ من بيده كتابة الحقيقة والنصّ عليها والحكم بمقتضاها هم المتفرجون لا الضحايا.

أشبه شيء هذا بملعب كرة قدم. إذ الولاء لهذا النادي أو ذاك لا يحكمه سوى الهوى والاعتباط، ومن يشجّع فريقاً سيظلّ يشجعه سواء لعب جيداً أو لا، وسواء ربح أو خسر فهو في آخر الأمر فريقنا.

لكنّ هذه الحرب في نظر جمهرة من مثقفي العرب هي حرب للفرجة من دون تعاطف. وما يحدث هو التالي: فريقي أنا ليس من بين هذين الفريقين اللذين دخلا الملعب.

أرقب بدهشةٍ عظيمة مواقف مثقفين عربٍ قذف بهم الهوى والاعتباط إلى أن يكونوا مجرد نظارة لما يحدث، وجمعوا لتمتين موقفهم وترميمه إعدادات شتى، أهمها وأقواها رغبتهم في التخلّص من إسلاميّة امتلكت الشرق خلال العقود الماضية. إنهم أشربوا في قلوبهم هذه الرغبة بحيث أنّ مشاهد الإبادة اليومية  تظهر على شاشاتهم خفيفة هيّنة لأنّ هواهم أقوى من هذه الحقائق.

الهوى الطائفيّ حاضرٌ عند كثيرين، خصوصاً عند المثقف الذي يستطيع أن يخفي هذا الهوى ببراعة فائقة، فتراه في سمتٍ ليبراليّ علمانيّ في حين أن الوحش الذي كان يربيه في أعماقه ويتستر عليه قد انتصر أخيراً وخرج. في لحظات الضعف يكفّ المثقف عن قدرته على التمثيل وتخرج إلى النور اشباحه. كنت أعرف شاعراً كبيراً عاش عمره المديد يسارياً صلباً وأدّى دوره بامتياز، لكنه ما أن وهن عظمه حتى ارتدّ إلى أصلٍ طائفيّ غلبه في آخر أيامه.

مثقفون عرب كثر يرون في ما يحدث حرباً بين فئاتٍ لا يعرفونها حقّ المعرفة، حرب بين قوى لا يفهمونها جيداً ولا يمكن لأحدٍ منها أن يكون موضوعاً لهوى لمثقف. فهناك اليهود ذوو الصورة المرذولة في قعر ذواتنا مهما كانت ثقافتنا وانفتاحنا، يقابلهم “الشيعيّ” ذو الصورة الشوهاء في أذهان أغلب مثقفي العرب “احملْ اسماً شيعياً كاسمي لترى ردود فعل مثقفين كبار حين يقابلونك وجهاً لوجه في عواصم العرب”، وبينهما المقاومون من الإسلاميين كحماس وسائر مشتقات الإخوان. وكلّ واحد من هؤلاء هو النقيض التامّ لكلّ ما يمكن أن يخلق هوى في نفس مثقف عربيّ.

هذه الحرب هي حرب الآخرين، تدور في بلادٍ ليس المثقف فيها سوى سائح.

في الأمر تنكيل بالحقيقة وحطّ من شأنها لأنّنا اعتدنا على أن يكون مدخلنا إلى الحقائق هوانا. وهوانا غير متعلّق بهؤلاء الذين يتحاربون.