صيغٌُ سرديَّة في قصص الحيوان

ثقافة 2024/11/06
...


د. نادية هناوي 





يشكِّل الحيوان مادة سردية مهمة في المرويات التراثية، من خلالها يتمكن الأديب من التعبير عن ذاته والتفكير في الوجود والموجودات وتأمل العالم والبحث في خفاياه، مستعملا صيغتين سرديتين: الأولى فيها الحيوان وسيلة رمزية ويأتي توظيفه بشكل عرضي ضمن سياق أدبي محمل بإشارات ودلالات بلاغية غير مباشرة في رمزية ما تريد توصيله من أفكار ورؤى، والصبغة الأخرى فيها السرد وسيلة بلاغية والحيوان غاية يتم بلوغها بمقاصد مباشرة فكرية وعلمية.

ومثال السرد الأول ما جاء في رسالة التوابع والزوابع لابن شهيد الأندلسي من قصص تأتي في إطار حواري، تتجادل فيه شخصيتان حول مسألة فكرية معينة حيث الشخصية الأولى سارد ذاتي والأخرى حيوان ناطق كما في قصة( الإوزة الأديبة) واسمها العاقلة وتكنى أم خفيف وهي ذات حظ من الأدب( فقلت: أيتها الإوزة الجميلة العريضة الطويلة أيحسن بجمال حدقتيك واعتدال منكبيك واستقامة جناحيك وطول جيدك وصغر رأسك مقابلة الضيف بمثل هذا الكلام .. وأنا الذي هممت بالإوز صبابة)  فردت قائلة:( أيها الغار المغرور، كيف نحكم في الفروع وأنت لا تحكم الأصول؟ ما الذي تحسن؟ قلت: ارتجال الشعر واقتضاب الخطبة على حكم المقترح والنصبة، قالت: ليس عن هذا أسالك..) وتنتهي القصة وقد خسر السارد الذاتي جولة الجدل مع الإوزة، وبرر خسارته بأن استهزأ بإجاباتها على أساس أن لا عقل لها. 

وأما مثال النوع الثاني من سرد الحيوان فقصة( حي بن يقظان) وتتأطر في بعدين هما في النهاية واحد؛ الأول فلسفي واقعي والآخر سردي غير واقعي. وكلما تسللت اللاواقعية إلى الحدث السردي الواقعي تداخلت الأبعاد الرمزية. وتبدأ القصة بولادة البطل( حي) من أب وأم، تزوجا سرا ووضعا مولودهما في تابوت وألقياه في البحر، فنقله البحر إلى جزيرة فيها ظبية ظنته ولدها، فحنت عليه وتعهدته ودفعت عنه الأذى( وألِف الطفل تلك الظبية حتى كان إذا هي أبطأت عنه اشتد بكاؤه فطارت إليه.. فتربى ونما واغتذى بلبن تلك الظبية الى أن تم له حولان وتدرج في المشي واثغر وكانت هي ترفق به وترحمه وتحمله الى مواضع فيها شجر مثمر) 

واتبع ابن طفيل في هذه القصة تقاليد السرد العربي، وأولها أن الحكاء صورة ابتدائية للسارد، وثانيها توظيف القطع والفصل الذي من خلاله يلم الحكاء بأطراف حياة البطل في ما قبل ولادته وما بعدها. وثالثها اتخاذ اللاواقعية قاعدة عليها يقوم السرد، وتتمثل بالظبية التي صارت أما حنونة لابن بشري، ورابعها الخيالية وتتمثل في الجمع بين ما هو مستحيل وممكن( ذكر سلفنا الصالح رضي الله عنهم ان جزيرة من جزر الهند التي تحت خط الاستواء وهي الجزيرة التي يتولد بها الإنسان من غير أم ولا أب وبها شجر يثمر نساء وهي التي ذكر المسعودي إنها جزيرة الواق واق) وخامس التقاليد الاستبطان وكثيرا ما يكون خاصا بالشخصية الآدمية أكثر من الحيوانية. وباستعمال الأسئلة يهتدي حي بن يقظان إلى التفكير العقلاني(فاقتصر في الفكرة في ذلك الشيء ما هو وكيف هو؟ وما الذي ربطه بهذا الجسد؟ والى أين صار؟ ومن أي الأبواب خرج عند خروجه من الجسد؟ وما السبب الذي أزعجه إن كان خرج كارها؟ وما السبب الذي كره إليه الجسد حتى فارقه إن كان خرج مختارا؟ ) 

ولأن هذه القصة كتبت في أواخر العصور الوسطى ظهر السارد كلي العلم يستبطن دواخل الشخصية ويكشف بعلمية عما يميز الإنسان عن الحيوان. وفي هذا تطوير لما كان السرد المقامي قد وظفه من متخيلات تحتكم إلى منطق اللغة وفنونها وقواعدها وليس إلى المنطق العلمي. وتتعقد الأحداث وتحتبك بموت الظبية. وشكّل الموت تحديا كبيرا لعقل الإنسان، فاندفع إلى محاولة إعادة إحيائها من جديد مستعملا طريقة التجريب والملاحظة( كان يطمع أن يعثر على موضع الآفة فيزيلها عنها فترجع إلى ما كانت عليه فلم يتأت له شيء من ذلك ولا استطاعه.. وكان إذا رجع إلى ذاته شعر بمثل هذا العضو في صدره ..فيتراءى له أنه كان يستغني عنها وكان يقدر في رأسه مثل ذلك ويظن أنه يستغني عنه. فإذا فكر في الشيء الذي يجده في صدره لم يأتِ له الاستغناء عنه طرفة عين) 

وبعد خمسين عاما من مكوث حي بن يقظان على الجزيرة يلتقي بكائنين بشريين هما أبسال وسلامان. وهذا ما زاد في محورية الشخصية الرئيسة. والطريقة التي بها ربط السارد بين القصتين هي قوله:( وبقي على حالته تلك حتى أناف على سبعة أسابيع من منشئه وذلك خمسون عاما. وحينئذ اتفقت له صحبة أبسال ومن قصته ما يأتي ذكره..) ويتفكر أبسال في أسباب وجود حي على هذه الجزيرة فتصور( أنه من العباد المنقطعين وصل تلك الجزيرة لطلب العزلة عن الناس كما وصل إليها) ويتفكر حي بن يقظان في وجه الحكمة من وجود أبسال وسلامان معه في هذه الجزيرة فلم يقف على فكرة محددة. ويحصل انعطاف كبير في مجرى السرد بالسفينة التي دفعتها الأمواج إلى ساحل الجزيرة وعليها جماعة تعجبوا من أمر حي الذي شرع يعلمهم ويبث أسرار الحكمة إليهم، وأخذ في وصف الفطرة والحق. وتنتهي القصة وقد تضاءل التخييل فتجلت الأبعاد الأخلاقية من وراء سرد الحيوان بفواعله الحيوانية والبشرية.

 إن هذه الصيغ في الجمع بين البعدين الموضوعي العلمي والسرد التخييلي فضلا عن التركيز على ثيمة الموت هو الدليل على أن المقصد من سرد الحيوان فكري، وأن الغلبة هي دوما للعنصر البشري.