شيءٌ عن بلاد القدوة السيِّئة

آراء 2024/11/06
...

  أ.د عامر حسن فياض 

 

كثيرون هم التبع الذين ينشدون التيه في (الحلم) الأميركي، بينهم المتصهين المتأسلم والمتصهين المسيحي والمتصهين اليهودي، يضاف اليهم مؤخراً المتبرقع بالديمقراطية والمدنية والعلمانية والعقلانية والحداثوية، وما بعدها ناسين أو متناسين أن الصهيونية حركة سياسية استعمارية عنصرية في جوهرها كما في أقنعتها، التي انكشفت عارية تماما في طوفان الأقصى. في خمس محاضرات ألقاها المفكر الأمريكي (نعوم تشومسكي) عام 1986 في نيكاراغوا أدان فيها جرائم الولايات المتحدة الأميركية التي وصفتها محكمة العدل الدولية بالإرهاب الدولي عبر استخدام غير مشروع للعنف مارسته الولايات المتحدة وطالبتها بوقف الجرائم، ودفع تعويضات كبيرة بينما رفضتها الأخيرة رفضاً متغطرساً. وقد استمرت الغطرسة الأميركية، حتى أصبحت هذه البلاد، نتيجة استطلاع دولي أجرته مؤسسة غالوب الاميركية، "أكبر تهديد للسلام العالمي ولم يداينها في هذه النتيجة أحد قط" على حد تعبير (تشومسكي)، الذي يستغرب أن تعد الولايات المتحدة الأميركية (القدوة الحسنة)، وهي لا يروق لها السلام ولا الأمن والاستقرار والتنمية في بلدان العالم الأخرى، بل يروق لها فقط، أما الفوضى أو التفاهة بعيداً عنها!.  ويذهب (تشومسكي) إلى التأكيد على أنه وفق المصطلحات، التي يستخدمها الأميركيون تعاد صياغة مقولة تهديد (القدوة الحسنة)، فيعبر عنها بمثال عن تفاحة فاسدة قادرة على إفساد مستودع كامل ـ أو فيروس قادر على نشر العدوى وبه تتقاسم قطع الدومينو.  وهكذا تتآكل نظم الهيمنة الامبريالية الصهيوأميركية الجديدة وتشهد أحداث طوفان الاقصى على هذا التآكل، وبفعلها فإن كثيرة جداً هي المآسي، التي أصابت مشروع المقاومة ولكن هذه المرة فإن الجديد المؤلم، الذي أصاب المشروع الصهيوأميركي هو كثير جداً بعد أن كان ألماً شبه صفري قبل طوفان الأقصى. إن التهديدات للقدوة الأميركية (الحسنة) من الخارج أصبحت حقيقة واقعة جعلت الادارة الاميركية تخشى الحرب الشاملة، لأن الموانع أصبحت كثيرة، آخرها الخشية من طيران نكهة الانتخابات الأميركية وخراب الشكل واللون البراق والمحدود جدا للديمقراطية الأميركية القائم على الديمقراطية الرأسمالية، بينما أول التهديدات لتلك (القدوة)، يتمثل بالخشية الأمريكية على أمن الطاقة وثانيها الخشية على أمن القواعد العسكرية المنتشرة في العالم وثالثها الخشية على أمن "إسرائيل"، الذراع العسكري للمشروع الصهيوأميركي في المنطقة. وهنا يطرح سؤال على كل من يرغب في فهم حقبة الحرب الباردة وما بعدها، ما الذي حدث عندما تفككت دولة الاتحاد السوفيتي السابق؟ الجواب الصريح كما يرى (نعوم تشومسكي) لم يتغير شيء يذكر على استمرار جرائم المشروع الصهيوأميركي باستثناء استمرارية إتباع السياسيات السابقة بمزيد من القسوة. فعندما اختفت جحافل الروس السوفيت توسع حلف الناتو شرقا، وهو الحلف الذي أنشئ وفقا لمبدأ تأسيسه لحماية أوربا الغربية والعالم من جحافل الروس السوفيت، فصار من صلاحياته السيطرة على نظام الطاقة العالمي والممرات البحرية وخطوط الأنابيب، وهو يعمل حتى الآن كقوة احتلال وتدخل تديرها الولايات المتحدة الأميركية. وبعد سقوط جدار برلين بوقت قصير، غزت الولايات المتحدة دولة بنما، التي خرج حاكمها البلطجي الصغير (مانويل توريغا) عن الطاعة الاميركية. وبدواعي التطور التكنولوجي ظلت المؤسسة العسكرية الاميركية تتضخم مستخدمة تعبير ملطف (القاعدة الصناعية الدفاعية) والذي يسوغ لبلاد (القدوة الحسنة) صناعة التكنولوجيا الفائقة، التي تحظى بدعم كبير من جانب البنتاغون في اقتصاد السوق الحرة للولايات المتحدة الاميركية. ورغم زوال زمن جحافل الروس السوفيت، ذهبت الولايات المتحدة تحت شعار (تهديد النزعات القومية الراديكالية) إلى وجود ضرورة اللجوء إلى الاستخدام الاحادي للقوة العسكرية ثم تطبيق مبدأ الحرب الاستباقية، التي جاء بها (بوش الثاني) في الغزو الامريكي الغربي للعراق والذي جسد، على رأي (نعوم تشومسكس) اسوأ جريمة دولة في الالفية الجديدة. واذا كان الحلم الاميركي يتكئ على (الديمقراطية الفاعلة) في الولايات المتحدة فإن الدراسات الحديثة في العلوم السياسية – حسب تشومسكي- تظهر أن غالبية عظمى محرومة فعلياً من حق التصويت، لتبقى الديمقراطية الشكلية قائمة، ولكن في إطار نظام لعل من الأنسب تسميته بــــ (البلوتوقراطية) أو حكم الأثرياء! 

وبالتوازي مع الازدياد الهائل في مستوى اللامساواة الاقتصادية، فقد وصل انخفاض المشاركة في التصويت في بلاد القدوة (الحسنة) إلى حدود المستويات المسجلة مطلع القرن التاسع عشر حين كان التصويت يقتصر على الملاكين الذكور ذوي البشرة البيضاء، لأن السياسات في هذه البلاد باتت تخضع لتحكم عدد قليل من كبار الرأسماليين، ويتوق هؤلاء إلى تهيئة تدابير فاعلة لقلب مسار التدهور الاقتصادي طويل الأجل واللا مساواة الاقتصادية الجامحة. كل ما تقدم هي حقائق وليست تأملات، في كابوس توهم البعض القليل بأنه حلم.. وهي حقائق عن بلاد القدوة السيئة وليست تأملات عن بلاد القدوة الحسنة.