الذكاء الاصطناعي يفاقم أزمة الحروب

بانوراما 2024/11/06
...

  فرانك جيوسترا 

 ترجمة: أنيس الصفار      

                                       

سلط تقرير نشرته هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» مؤخراً الضوء على تزايد صعوبة تجنيد شبان جدد في أوكرانيا. فبعد نحو ثلاث سنوات من الحرب وسقوط أكثر من 500 ألف إصابة من الروس والأوكرانيين شحّ سيل المتطوعين. 

نتيجة لذلك أصدرت أوكرانيا قانوناً يفرض على جميع الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و60 عاماً التقدم لتسجيل التفاصيل المتعلقة بهم في قاعدة بيانات الكترونية استعداداً لاحتمال تجنيدهم. كذلك ينشط ضباط التجنيد بلا كلل في البحث عن الاشخاص المتهربين من التسجيل، الأمر الذي دفع بالكثيرين إلى التواري والاختباء.


مصاعب التجنيد البشري

في مدينة أوديسا الأوكرانية عرف عن مفارز التجنيد ذات الصيت المثير للرهبة أنها تنزل الناس قسراً من الحافلات والقطارات لتمضي بهم مباشرة إلى مراكز التجنيد. هؤلاء المجندون الذين يقتادون عنوة يكرهون أن يتحولوا إلى أرقام أخرى ضمن احصائيات «مفرمة اللحم» الدائرة على خط المواجهة مع روسيا، ودواعيهم مفهومة.

على امتداد التاريخ واجه الحكام والسياسيون معضلة اقناع المواطنين العاديين بالتطوع للحرب. إذ كيف يمكن للقادة إقناع جماهيرهم بحمل السلاح وبذل حياتهم؟ مع ارتقاء مستويات التعليم وانتشار المعرفة لدى المجتمعات تطورت ايضاً تكتيكات التجنيد، حيث أخذ الزعماء والقادة يعمدون غالباً إلى مخاطبة المشاعر القومية المتطرفة ونزع الصفات الانسانية عن العدو وخلق أجواء توحي بمخاطر التهديد الوجودي وتلصق بالعدو انتماءات كاذبة، أو حتى اللجوء إلى اكاذيب صريحة.

خذ مثلاً مزاعم الكيان الصهيوني المحتل بشأن قطع رؤوس الاطفال، وادعاءات أميركا بخصوص أسلحة الدمار الشامل، ناهيك عن التذرع بضرورة تغيير أنظمة الحكم لبعض الدول لحماية المدنيين، كما شهدنا في ليبيا. عادة ما تتكشف الحقائق عند الوصول إلى نهاية الموصوع، ولكن هذا لا يحدث في أغلب الأحوال إلا بعد وقوع الضرر بزمن طويل.

من الامثلة البارزة على ما سبق فضيحة أوراق البنتاغون في العام 1971 التي كشفت معلومات مهمة عن حادثة خليج تونكين واثبتت ان الحكومة الأميركية قد تلاعبت بتفسير الاحداث التي أدت إلى تصعيد حرب فيتنام. والمثال الآخر الأحدث عهداً يتعلق بأسلحة الدمار الشامل التي قادت إلى غزو العراق.

من الملاحظ أن إقناع عامة الناس شيء، أما تجنيدهم للحرب فهو شيء مختلف يتطلب غرس عقائد أعمق. إن تدريب المجندين على الانصياع للأوامر بلا سؤال يتطلب تمارين عسكرية متكررة تكيف المجندين على الاستجابة للأوامر فوراً وبلا تلكؤ، لأنك كجندي لا ينتظر منك ان تحكم على أخلاقية الأفعال الموكلة اليك، وكل ما عليك هو أن تنفذ الأوامر كما صدرت اليك بالحرف، وإذا ما فشلت في هذه التربية العقائدية سيكون أمامك دائماً شبح التعرض للمحاكمة العسكرية أو السجن او حتى مواجهة فرقة الإعدام.

لذا، ونظراً للجهد الذي يتطلبه اختلاق القصص وإشاعة الخوف والاكاذيب وغرس العقائد المطلوبة لشحن الجماهير بالمشاعر وتعبئتها للحرب، ألا يكون من الأسهل إلغاء الحاجة إلى إقناع المواطنين او الجنود بالمرة؟ التطورات التكنولوجية الحديثة ربما يكون لديها الحل هنا.


تغير المشهد 

من الواضح أن الذكاء الاصطناعي سوف يحدث ثورة في عالم التسلح لم يشهد لها تاريخ المبتكرات مثيلاً في الماضي. فقد أبرز تقرير حديث صادر عن معهد كوينسي اهمية ولوج «وادي السلكون» ميدان الأسلحة. يقتبس هذا التقرير مقطعاً مما قاله الرئيس التنفيذي السابق لشركة غوغل «إريك شمدت» ذات يوم: «بين حين وآخر يظهر إلى الوجود سلاح جديد او تكنولوجيا جديدة فتتغير الموازين. ففي زمن ما من ثلاثينات القرن العشرين بعث آينشتاين برسالة إلى الرئيس الأميركي روزفلت قال فيها ان بين أيدينا هذه التكنولوجيا الجديدة؛ تكنولوجيا الاسلحة النووية. وهي قد تغير مسار الحرب، ومن الواضح ان هذا هو ما فعلته. وأنا أقول هنا ان المنظومات المنتشرة، المستقلة واللامركزية التي تدار بالذكاء الاصطناعي، تمتلك نفس هذا القدر من القوة.»

فالذكاء الاصطناعي لديه القدرة على تحقيق ما لا يقدر عليه البشر، حيث يحلل ملايين البيانات المدخلة، ويحدد الاشكال والانماط، ويتبادل الاشعارات مع القادة بسرعات لا يمكن تخيلها. ويؤكد الخبراء العسكريون أن الطرف الذي يوفّق في تقصير ما يسمى «سلسلة قتل الهدف» – وهو الوقت المستغرق ما بين تحديد الهدف وتدميره – بفاعلية أعلى سيكون الطرف المنتصر.

قد يصبح الذكاء الاصطناعي ذروة التكنولوجيا الثورية في مجال خوض الحروب، ولكنه لن يكون مجرداً. فالطائرات المسيرة الانتحارية التي تستخدم حالياً خلال حرب أوكرانيا سوف تملأ ميادين الحرب بأسرابها ذات يوم، بالإضافة إلى العديد من تكنولوجيا الخيال العلمي الأخرى مثل أسلحة الطاقة المباشرة. من موجات المايكروويف عالية الطاقة إلى أسلحة حزم الجسيمات فشعاع الليزر، التي تجرى عليها الاختبارات حالياً لدى الولايات المتحدة وبريطانيا والكيان الصهيوني المحتل وروسيا.

إن محاكاة ما شاهدناه عبر سلسلة أفلام «ترمنيتور» ليست ببعيدة هي الأخرى. انظر إلى التطورات التي حققتها شركات مثل «بوسطن دينامكس» التي تستطيع روبوتاتها الشبيهة بالبشر أن تجري وتقفز وتتحرك مثل البشر إلى حد كبير. وإذا ما زودت هذه الروبوتات بالمدافع الرشاشة أو قاذفات اللهب وتم صنع مئات الألوف منهم بطريقة الانتاج الواسع فإن الفكرة ستكون مخيفة بحق. (يجدر بنا أن نذكر هنا ان شركة «بوسطن دينامكس» قد اتصلت بصحيفة «ستار» عقب مقالة نشرتها الأخيرة لتؤكد أنها لا تدعم مبدأ تسليح الروبوتات.)

ويبدو أن مستقبل الحرب سوف تدخل فيه ايضاً أساليب حرب الجيل الخامس، التي ستنفذ بالدرجة الأساس من خلال فعاليات عسكرية لاحركية، مثل الهندسة المجتمعية والتضليل الإعلامي والهجمات السيبرانية. وحين تقترن هذه الوسائل بالذكاء الاصطناعي والأنظمة المؤتمتة بشكل كامل ستكون مدمرة بقدر الحرب الحركية.


ترك القرار للآلات 

وهكذا ستكون إضافة الذكاء الاصطناعي إلى أي من هذه الأسلحة عبارة عن خلق أنظمة مستقلة بنفسها قادرة على اتخاذ قرارتها دون تدخل بشري. أي أن قرار القتل سوف يترك بيد خوارزمية مجردة. ونظراً لأننا لم نبلغ بعد مستوى الفهم الكامل للكيفية التي يتعلم بها الذكاء الاصطناعي وكيف يخرج بالاستنتاجات فإن مخاطر سوء الأداء الكارثي يجب ألا يستهان بها.

يفتقر الذكاء الاصطناعي إلى البوصلة الأخلاقية، وكل ما يهدف اليه ببساطة هو إنجاز مهمته. وكما يوضح لنا  المؤلف وخبير الذكاء الاصطناعي «ماكس تيغمارك» فإن الآلة لا حاجة بها لأن تضمر الشرّ، كل ما تحتاج اليه كي تشكل تهديداً محتملاً هو أن تكون كفوءة في تحقيق أهدافها، وإذا ما صادف وجود أناس ابرياء في طريق تنفيذ المهمة فتلك عثرة حظ مؤسفة، حسب تعبير تيغمارك. 

فما هي تداعيات كل هذا التقدم والتطوير على قرارات الحرب؟ يصعب التنبؤ بذلك، ولكن احدى النتائج قد تكون: إن مع قلة الحاجة إلى تجنيد الرجال ستقل ايضاً الحاجة إلى تسويق فكرة دخول الحرب والترويج لها بين الجماهير. في الولايات المتحدة تمكنت شركات «مجمع الصناعات العسكرية» بالفعل من تخطي الكونغرس (خلافاً للدستور الأميركي) بشأن مسألة اتخاذ قرار الدخول في حرب، الأمر الذي أعطى الرئيس صلاحيات هائلة.

إن إحالة الجنود إلى المتاحف، شأنهم شأن الأقواس والسهام والبنادق البدائية، ستجعل مسألة إعلان الحرب أقل إثارة للجدل (طالما لن تكون هناك أكياس جثث تعرض في نشرات أخبار المساء) وبالتالي سيصبح شن الحروب أسهل. أما الجنود الوحيدون الذين ستبقى الحاجة اليهم قائمة هم اولئك الشبان الذين سيجلسون امام حواسيبهم لتنفيذ عمليات تدمير الأرواح والممتلكات مثلما يفعلون في ألعاب الفيديو. عندها لن يعود هناك شاب عمره 18 عاماً يلفظ آخر أنفاسه وسط الوحل وحيداً في مكان ما من أصقاع هذا العالم. ومع ذلك فإن الوحيدين الذين سيبقون يدفعون الثمن من خلال هذا النوع الجديد من الحروب فهم المدنيون الأبرياء الذين يقعون بين تشابكات خطوط النار.

على مدى العقود خاضت الولايات المتحدة حروباً نتج عنها دمار الأرواح والاقتصادات من دون ان تحقق أهدافها المعلنة، كما ساهمت إلى حد كبير في الدين الهائل الذي يثقل كاهل الأمة، وقد انعكس الأمر على المواقف العامة، خصوصاً بين صفوف الجيل «زد - Z» (الجيل «زد» هم الاشخاص الذين ولدوا بين عامي 1995 و2010) وهو جيل يتزايد انتقاده للحرب ويقل تقبله لها.

ومن المرجح بأن ادخال التقنيات التي يمكن أن تجعل الجندي أثراً من الماضي ربما ستفتح أمام مروجي الحروب الذين يتلاعبون بعملية صنع القرار على أعلى المستويات طريقاً أسهل لشن مزيد من الحروب العبثية، وهنا تكمن الطامة والمأساة.


عن مجلة «رسبونسبل ستيتكرافت»