علي لفتة سعيد
لا يبدو أن بيان المرجعية الدينية العليا، المتمثّلة بالسيد علي السيستاني، جاء في وقتٍ ومكانٍ وطريقةٍ تدخل ضمن سياق التصريحات أو البيانات الطبيعية، بل كان هو الضوء الكبير الذي يسلّط على الواقع العراقي بكل ما فيه من أزماتٍ متناسلة، سواء ما يتعلّق بالجانب الداخلي العراقي سياسيًّا واقتصاديًّا وإداريًّا، أو الجانب الخارجي المتعلّق بالعلاقات العراقية- الأمريكية، أو العراقية- الإيرانية، وكذلك الحرب في غزة ولبنان.
فكلّ كلمةٍ في البيان الذي صدر من مكتب المرجعية بعد لقاء المرجع الأعلى بمندوب الأمم المتحدة، تمثّل جانبًا من الأجوبة على الأسئلة العديدة، التي كانت تتردّد في الوسط العراقي، وحتى العربي والعالمي، في الأشهر الطويلة الماضية، خاصةً بما يتعلّق بالوضع العراقي وما يشهده من توسّعٍ في المشكلات وتصاعدٍ في التلويح بالصراع الذي أصبح متراكمًا وقويًّا في التصريحات والوعيد والتهديدات التي تُبث هنا وهناك.
لكن الأمر لا يتوقّف عند ما جاء في البيان، فهو يحمل دلالةً كبيرةً نظرًا، لما يمثّله السيد السيستاني من موقعٍ روحي وديني، وحتى عراقي، ودعوته المتكرّرة لبناء الوطن وفق الدستور وتطبيق القوانين من قبل الحكومة، بل في توقيت البيان، الذي جاء بطريقةٍ محسوبةٍ وغايةٍ في الدقة، إثر تطوّراتٍ داخل البنية الاجتماعية والسياسية في العراق، المتأثّرة بما يجري في الخارج، وتأثير التدخلات التي يعاني منها العراق منذ عام 2003 وحتى اليوم.
فإذا نظرنا بشكلٍ تحليلي نجد أن السيد السيستاني استقبل ممثل الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس بعثتها في العراق، الدكتور محمد الحسان، وهو عماني يعمل في الدبلوماسية الدولية منذ فترةٍ طويلة. وربما تكون هذه المرّة الأولى، التي يكون فيها ممثل الأمم المتحدة من دول الخليج، إن لم يكن من الدول العربية بعد السياسي الجزائري الأخضر الإبراهيمي. وهذه خطوة لا يمكن إغفالها من قبل الأمم المتحدة ذاتها، فقد كان تعيين شخصيةٍ من عُمان التي تحظى بمكانةٍ اجتماعيةٍ جيدة وسط المجتمع العراقي وبمقبوليةٍ بسبب سياستها المعتدلة. فعُمان تتمتّع بعلاقاتٍ طيّبة مع الجميع سواء في الخليج أو مع إيران والمنطقة أو حتى العالم، وهي قادرةٌ على إجراء المفاوضات واقتراح الحلول لبعض المشكلات الدولية.
ولأن الوضع في العراق معقّدٌ بسبب شبكةٍ من التقاطعات داخل البنية السياسية العراقية، وفشل الكثير من ممثلي الأمم المتحدة السابقين، فإن هذا الاختيار العُماني خطوةٌ ذكيَّةٌ تصبّ في صالح الجميع، وليس في صالح الأمم المتحدة وحدها. ولهذا، جاء بيان المرجعية الدينية العليا كرسالةٍ تُنقل عبر قناةٍ موثوقٍ بها، حاملاً العديد من الحلول للوضع العراقي المتشعّب. فكل ما تحدّث به السيد السيستاني سيتم نقله وإرساله إلى جميع الجهات، سواء الداخلية التي شملتها نقاط البيان، أو الخارجية التي تشارك في صنع الصراع العراقي، بما فيها الدعوة لمنع التدخلات الخارجية من أي طرفٍ كان، وهو أمرٌ يصب في صالح العراق ويُبعده عن أي محورٍ مهما كانت دوافع هذا المحور.
إن بيان مكتب المرجعية الذي جاء بعد لقاء المسؤول العماني كان مهمًّا، وهو الرسالة الكبرى التي تؤكّد أن المرجعية الرشيدة هي صمّام الأمان للشعب العراقي، خاصة أن البيان الذي وصل بسرعة إلى كل الجهات ستتولّى بعثة الأمم المتحدة، المتمثلة بالسياسي العماني، مسؤولية ترتيب اللقاءات وشرح مضامينه لتجنب أي التباسٍ في التأويلات التي قد تصدر من هذا الطرف أو ذاك. فالرسالة واضحة، لكن التأويلات متعددة، ودور البعثة أن توحّد هذه التأويلات وتوضّح غايتها ومعناها.