الزعيم خرائط وأسلحة.. الوثيقة والواقعة
د. نادية هناوي
جرت أحداث ثورة 14 تموز 1958 بسرعة فائقة غير أن ما كتب عن تفاصيلها وتبعات انجازاتها وإخفاقاتها وما رافقها من ملابسات وما لحقها من تحريات كان غزيرا. فلقد استقطبت الواقعة اهتمام الباحثين على مرِّ العقود، فاختلفوا في الكتابة عنها من نواح سياسية وتاريخية واجتماعية واقتصادية وفكرية عدة، كما أن الواقعة أثارت اهتمام الأدباء فألفوا فيها روايات تباينت قدراتهم فيها، واختلفت مواقفهم إزاءها.
وما هذا الاختلاف في هذه الكتابات سوى دليل على اتقاد جذوة الواقعة، وأنها ما زالت في حرارة اندلاعها. ولا يكاد يمر عام إلا وهي حاضرة على المستوى الشعبي غالبا وأحيانا الرسمي. وكثيرة هي العوامل التي تستدعي حضور الواقعة بهذا الشكل الحيوي وتجعل الاختلاف متواصلا حولها سلبا وإيجابا. وأكثر العوامل أهمية يتمثل في الجدل حول أحقية عدّها يوما وطنيا، وهل كان عبد الكريم قاسم زعيما حقيقيا أم كان طاغية؟
عاصفة التحولات
وعادة ما يكون هذا الجدل دائراً بين أطراف يناوئ بعضها بعضا مثل الأحزاب اليمينية ضد الأحزاب اليسارية، ومناصري الجمهورية ضد مؤيدي الملكية، والجماهير الكادحة ضد المتطلعين إلى الوصل بزمان الارستقراطية البغدادية. صحيح أن المجتمع العراقي شهد وقائع أخرى تلت 14 تموز 1958 وكانت عاصفة بالتحولات والمنعطفات حسب طبيعة أنظمة الحكم التي توالت على العراق خلال العقود الستة المنصرمة، إلا أن 14 تموز بقيت محافظة على وتيرة حضورها الجماهيري داخل المجتمع العراقي.
وليس الاختلاف حول هذه الواقعة مجرد تقاطع فكري في زوايا النظر، بل هو أيضا صراع وجودي على مختلف المستويات، ولابد في هذا الصراع من طرف كاسب على حساب أطراف أخرى. وهذا ما يجعل الاختلاف حادا ومتواصلا، فتتولد عنه عصبيات وتناحرات، تستقطب انتباه الروائيين وتدفعهم نحو تجميع خيوط تلك الواقعة على تشابكها وشائكيتها بغية رسم صورة تمكن من إظهار الحقيقة أو في الأقل الاحاطة ببعض منها.
وثمة دواع تفرض على الروائي العراقي الانغماس بالواقع ليكون النوع الغالب في الكتابة عن واقعة 14 تموز من ناحية صنّاعها أو ضحاياها متمثلا في الرواية الواقعية بأنواعها، وأقل منها الرواية التاريخية والسير الذاتية التي يدلي فيها أصحابها بشهاداتهم ويقيدون مذكراتهم أو اعترافاتهم. ونذكر مما صدر خلال العقدين المنصرمين من روايات واقعية اتخذت من هذه الواقعة وما جرى قبلها وبعدها موضوعا سرديا "شارع الزعيم" لعباس لطيف و"الباشا وفيصل والزعيم" للكاتب الراحل باسم عبد الحميد حمودي و"ساعة في جيب الملك" لميسلون هادي و"الملك في بجامته" لخضير فليح الزيدي.
وقد يقترب الروائي في كتابة الرواية الواقعية من التسجيل حينا ويبتعد عنه حينا آخر. وما يقود الروائي نحو التسجيل انشداده إلى الوثيقة التي ما أن تتوفر بين يديه بنوعيها العام والخاص، العلني والسري حتى تفرض عليه أن يوظفها في سرده سواء بوازع فني إلى التسجيل أو من دونه. الأمر الذي يجعل التسجيلية منبثة انبثاثا تلقائيا في الرواية الواقعية على اختلاف صورها النقدية والاشتراكية والسحرية والغرائبية وغيرها.
سجلات التاريخ
وسنقف عند رواية "الزعيم خرائط وأسلحة" للكاتب علي بدر والصادرة حديثا عن دار المدى 2024 واتخذت من تلك الواقعة موضوعا وكان للوثيقة حضور واضح فيها.
وتدور أحداثها حول ملابسات ما قبل وبعد واقعة 14 تموز 1958. وقد صرح الكاتب أن روايته تاريخية – مع أن غلاف الرواية لم يتضمن هذا التوصيف- مفترضا أن هذه الواقعة مركونة في سجلات التاريخ في حين أنها ما تزال معاصرة وحية في الذاكرة الجمعية للجيل الذي عاصرها والذي ما يزال الكثير منه حيا يرزق.
وكاد الاستغراق في استعمال الوثائق أن يجعل هذه الرواية تسجيلية بيد أن مركزية السارد أخلَّت بالتسجيلية فجعلت السرد واقعيا بوجهة نظر ايديولوجية. والسبب أن توظيف الوثائق لم يكن خالصا لوجه التوثيق بحسب الزمان الروزنامي وإنما كان القصد التفسير حينا والتحقيق حينا آخر.
وعلى الرغم من أن الجزء الأول من الرواية اشتمل على زمان روزنامي باليوم والشهر والسنة ( 1 و7 و9 و10 و12 شباط 1963 ) ومن بعده وظفت أخبار مقتطعة من الصحف والمجلات وغيرها، فإن السارد كان حاضرا بما ضمَّنه في نهاية هذا الجزء من تناص مأخوذ من إحدى مسرحيات شكسبير (العيب يا بروتوس العزيز ليس في حظوظنا بل في أنفسنا) وهذا بمثابة تفسير به يدعم السارد الحبكة ويهيئ الأرضية لوجهة النظر الايديولوجية التي أبان السارد عنها في بداية الجزء، وفيه وصف ما تمخضت عنه الواقعة من انقلاب بالمذبحة (هكذا كانت الأسلحة في الأيام التي حدثت فيها المذبحة).
وهذا ما أضاع على الذاكرة شفافيتها وحال من دون أن يكون الزمان تقويميا أو روزناميا، فهيمن السارد بنوعيه العليم والذاتي المشارك، محاكيا الواقع الموضوعي وعاكسا حالة الاختلاف الفكري حول واقعة 14 تموز. وما من حقيقة يمكن رصدها في هذه الرواية بسبب ما ترشح من وجهة نظر، انحازت إلى طرف واحد من أطراف الصراع.
وهو ما يتضح على مستوى المتعالقات الخارجية بدءا من العنوان الذي فيه قرن الكاتب اسم الزعيم بالأسلحة في إشارة رمزية إلى دموية حكمه الجمهوري، مرورا بالاستهلال الهوميري الذي فيه التساؤل الآتي: (هل كل الرجال مخطئون؟) والإجابة عنه تحتاج من جانب السارد بحثا وتفسيرا يقتضيان بدورهما تحبيكا يسفر عن وجهة نظر، تتضح أيضا جلية على مستوى المتعالقات النصية الداخلية والمتمثلة بعناوين الأجزاء الخمسة - رابعها مفقود أو محذوف- وهي على التوالي (الأسلحة/ خرائط استعمارية / أبناؤنا الرومانسيون والمؤامرة/ الثورة والمذبحة الملكية) تلحقها ثلاثة تقارير وصفها السارد بالمهمة.
وفي هذا دليل آخر على قصدية بحثه عن تفسيرات وليس حقائق. أما الملحق الذي فيه تعريف بالشخصيات المسرودة فنجده زائدا، ولو كانت الشخصيات مجهولة ومستدعاة من غياهب التاريخ لكان واجبا على الكاتب التعريف بكل واحدة منها. وكان جورجي زيدان يفتتح كل رواية من رواياته بمسرد بالشخصيات (المستدعاة من غبار العصور) محددا أدوارها وصلات القرابة أو الصداقة أو الأداء التي تربط فيما بينها.
وعلى الرغم من شمولية النهج الواقعي، فإن الوازع إلى التسجيل لم يختف تماما، بل هو يظهر بين الفينة والأخرى. ونستدل عليه تارة في شكل توقيتات بالشهر واليوم والسنة وتارة أخرى في التركيز على الذاكرة المكانية وهي تمتد بين بغداد ( شارع الرشيد/ مقهى البرازيلية/ القصر/ النادي الرياضي في الاعظمية) ولندن ومصر وباريس.
سرد ذاتي
لم يقتصر السارد في تحبيك الرواية على الوثائق وإنما وظف المتخيل السردي، ومن تلك الوثائق الأخبار المقتطعة من الصحف كصحيفتي الجمهورية والأخبار ومجلة روز اليوسف المصرية والاوبزيرفر والديلي ميرور والصنداي تايمز اللندنية والبرافدا الروسية واللموند واللوماتييه الفرنسيتين فضلا عن الصور والتقارير الصحفية ومراسلات عميل المخابرات الآن دلاص وأغنية أم كلثوم.. الخ. ولكي يعزز السارد هيمنته على الأحداث، يسوق مشاهد درامية في خضم توظيف الوثائق كي تتصاعد الأحداث وتتأزم. واتضحت هيمنة السارد أكثر في الجزء الثاني الذي فيه لعبت شخصية ماريون دور البطولة بوصفها شاهدة على (عالم متوحش) بدأ مع واقعة 14 تموز وانتهى بانقلاب 8 شباط 1963 وفيه قُتل زوجها الضابط الطيار واليساري المعادي للملكية عمر الاوقاتي.
ويتحول السرد الموضوعي إلى سرد ذاتي يحكي فيها المؤلف قصة كتابته للرواية أولا بلقائه طالب الدراسات العليا سمير الذي كان يعد أطروحة عن حياة الزعيم في جامعة كولومبيا. وثانيا بلقائه الباحث الألماني بيتر صلاغليت أو سلغليت (وقفت وعيناي تنظران الى الكتب، فجأة سقطت عيناي على كتاب لافت: "العراق منذ عام 1958: من الثورة الى الدكتاتورية" الكتاب صادر عن دار كيغان بول تعودت أن أختار منها بعض الكتب الخاصة بالشرق الأوسط)ص.25
ومعروف أن بيتر سلغليت من الباحثين الذين يرون في الحكم الملكي خيرا كثيرا للعراقيين، وله كتاب (بريطانيا في العراق) وفيه درس دور بريطانيا خلال مرحلتي الاحتلال والانتداب واعتمد على المصادر البريطانية فقط ومنها المندوبية السامية في بغداد ليكون كتابا في التاريخ السياسي وليس تحليلا اجتماعيا لواقع الحياة العراقية. ولقد اعتمد المؤلف علي بدر على هذا الكتاب ودراسات أخرى منشورة في مجلةMerib في كتابة روايته وبخاصة المقاطع المندرجة تحت مسمى( أوراق) وفيها تدلي كل شخصية من شخصيات الرواية بمذكراتها حول واقعة 14 تموز. وتشغل هذه الأوراق مساحة الثلث من الرواية: من منتصف الجزء الثاني والجزأين الثالث حتى الخامس. وتسرد هذه الأوراق في شكل سيري ذاتي تحت عنوان واحد، يبدأ بمفردة "أوراق" مضافا إليها اسم الشخصية وكانت كفة الأوراق مائلة للزعيم قاسم ( فلنستمع إلى صوته: ولدت قبل شروق الشمس بحوالي ساعة تقريبا في يوم بارد بردا قارسا من أيام ديسمبر من العام 1914 والدي قاسم نجار محله المهدية في بغداد ووالدتي كيفية بنت حسن يعقوب. ولدت بأذنين كبيرتين تشبهان الفطر)ص37.
وجهة نظر ايديولوجية
وعادة ما تلحق الأوراق تضمينات إخبارية مقتطعة من صحف يدسها السارد تحت عناوين قصيرة مثل (ملك النمسا، تقرير في صحيفة، أغنية فارسية قديمة، صحيفة حريت أفكار التركية، صحيفة الديلي ميرور) ولا تتعدى سطور هذه الأخبار الصفحة الواحدة وسرعان ما يختفي التضمين الإخباري بدءا من منتصف الجزء الثاني حتى نهاية الرواية البالغة صفحاتها مائتين ونيفا من القطع المتوسط. وبهذا الشكل يكون الستار قد استدل على التسجيل لأن السرد - كما مر معنا- لم يكن مصحوبا بذكر الزمان الروزنامي إلا نادرا.
صحيح أن السرد الذاتي يغلب على أجزاء الرواية، غير أن ذلك لا يعني إزاحة السارد العليم، بل هو مهيمن يوزع الأدوار على الشخصيات بالتناوب. وهو ما ساهم في بلورة وجهة نظر ايديولوجية انحازت لطرف يرى في الحكم البريطاني للعراق انجازا حضاريا حطمته واقعة 14 تموز وما تلاها من انقلابات عسكرية دموية أسفرت عن مجزرة لليساريين أكثر دموية.
ويتوزع السرد الذاتي داخل الأوراق بين قسمين؛ الأول تمثله الأوراق التي حملت أسماء الشخصيات الحقيقية (الزعيم قاسم - جورج الياس - التاجر ساسون عزرا البغدادي - عبد الرحمن الناظر - حلمي عمر- وازوالد اشبينغلر- ليوز ابنة الجندي سكوت - فيصل الاول - نوري السعيد - الملك غازي - بكر صدقي- هتلر - فرتو غروبا- عبد الاله- الاميرة هيام -سلام عادل- كارل ماركس -فهد "يوسف سلمان يوسف"- ازرا باوند - حنا ارنت0-بدر شاكر السياب - معروف الرصافي -فلور بيكهوت -شقيقة جورج تراكل - عربية توفيق لازم- لونس العرب - الزهاوي - هوغو بول كاريه - نائب الملك - هانز ارب ومارك سايكس - نائب الملك - حسين الرحال - محمود احمد السيد - روديار كبلنغ صبي الإمبراطورية البريطانية- تحسين قدري - مصطفى علي - عبد الجبار جواد - جورج اورويل - السفير البريطاني - ستيوارت منزس - وصفي طاهر - الاميرة عابدية - الملازم محمد جواد غصيبة -المقدم طه).
والقسم الثاني شخصيات تركها السارد بلا أسماء لان دورها في واقعة 14 تموز غير مباشر(ضابط في الحرس الملكي - جندي بغدادي ناج من الجيش العثمانية- بلا تسمية مذكرات ضابط روسي - شاعر تركي وبرلماني بريطاني - الناقد الأدبي - طالب التاريخ - مدير البلاط - صحفي مستقل- قومي متطرف- مفكر يساري- مدير الأمن).
وتكثر التناصات مع كتب التاريخ والمذكرات العربية والأجنبية في أثناء سرد الشخصيات لأوراقها والغاية تقديم صور استباقية للمآل الذي ينتظر الزعيم يوم 8 شباط 1963 وأيضا تشويق القارئ عبر خلق فجوات تبعد الملل عنه بسبب تراتبية الأوراق واحدة تلو الأخرى. وما الانتقال من الجزء الثالث إلى الجزء الخامس المعنون (الثورة والمذبحة الملكية) سوى محاولة لإبعاد هذا الملل أو لعلها فذلكة أسلوبية تشي بأن ثمة جزءا آخر سيظهر للرواية.
إن واقعية رواية (الزعيم خرائط وأسلحة) هي في وجهة النظر الايديولوجية التي بدا فيها الكاتب ميالا إلى العهد الملكي من خلال إشارتين مهمتين: الأولى أنه قمع الحس الجماهيري، فكان دور الشعب مفقودا في هذه الرواية مقابل نقمة السارد العليم على هذا الشعب الذي وصفه في أكثر من موضع بأنه قاتل ونهّاز فرص ونهّاب (صرخ الجمهور الهائج وراء السياج مبتهجا يريد الدخول إلى المكان فقد تشوق طويلا للنهب) و(الثعلب هرب قبل الوصول إليه، والشعب يدقق بالوجوه عله يحصل على المكافأة). ونجده جليا أيضا في بداية الجزء الخامس المعنون (الثورة والمذبحة الملكية) الذي فيه يستدعي السارد قول إحدى شخصيات شكسبير (إياكم وقتل الملك كلما قتل ملك تغيب الشمس أو تهب ريح عاتية او تغضب السماء بشكل هائل ومرعب لكن البابليين أدمنوا قتل ملوكهم وهم أنصاف آلهتهم منذ ذلك اليوم) ولا يخفى ما للافتتاح بهذا التناص من أبعاد تؤكد وجهة النظر الايديولوجية المناصرة للملكية والناقمة على الجمهورية بوصف عبد الكريم قاسم عسكريا براغماتيا جاء الى الحكم من أجل نفسه وليس من أجل الجماهير كما في هذا المقطع الذي يرد على لسانه وفيه ينظر الى الجماهير وسيلة وليست هدفا (البيان الذي سيذيعه العقيد عبد السلام هدفه إثارة الجماهير لمساندة الثورة. إذا خرجت الجماهير وبكثافة ستقطع الطريق على اي رد فعل.. الأمر ليس محسوما إلا بكثافة الجماهير التي ستخرج الى الشارع يجب مراقبة الوضع.. سيذيع العقيد عبد السلام بيانه وستخرج الجماهير. فاليساريون لديهم اقوى التنظيمات في الشرق الأوسط هم الذين يمكنهم تحريك الجماهير ببساطة شديدة بتغيير المعادلات على الأرض لذلك كنت أعرف أهمية التحالف معهم) ص204، وهذا القول تفنده وقائع حكم عبد الكريم قاسم الذي جاء لصالح الجماهير ومن أجلها.
الوجود والزمان
أما التقارير الثلاثة التي تلت تلك الأوراق، فعبارة عن شهادات تسرد بضمير الأنا، وتؤكد وجهة النظر أعلاه، وترد الشهادة الأولى على لسان الضابط الذي استلم جثث العائلة المالكة والثانية بلسان الطبيب الذي فحص جثة الملك والثالثة بلسان العبوسي وهو في موضع الاستجواب.
إن واقعية هذه الرواية غلبت على تسجيليتها، فكانت أحداثها محتدمة باحتدامية واقعة 14 تموز فاشتبك يوم 14 تموز بيوم 8 شباط وتعددت الرؤى بين كون الواقعة ثورية أو انقلابا دمويا وكون الزعيم حاكما جمهوريا أو ديكتاتورا. ومن الطبيعي بعد كل ذاك التشابك والتعدد أن تكون الرواية أحادية الصوت وبوجهة نظر ايديولوجية واحدة.
وما ورد في غلاف الرواية الخلفي من تحديد زمني 1914-1958 غير دقيق، لأن الرواية لم تنته عند هذا التاريخ، بل انتهت مع انتهاء حياة الزعيم في شباط 1963. أما توصيف الرواية بأنها استكشاف تاريخي وكتابة تاريخ مغيب وعمل ما بعد كولونيالي، فغير دقيق أيضا لأن توظيف الوثائق لا يعني أن الرواية تاريخية. وهذا أمر يخلط فيه كثير من الكتّاب أي بين الروايتين التاريخية والتسجيلية، ناظرين إلى واقعة 14 تموز 1958 على أنها (من الماضي) وهذا التصور وليد الإيهام بالواقع الموضوعي وحصيلة خلط نقدي في مفاهيم التاريخ والواقع والمجتمع والوجود والزمان. وما لا شك فيه أن التاريخ ليس هو كل ما مضى قبل عقود عدة، فثمة وقائع لم تنقض تأثيراتها أو هي انقضت لكنها ما تزال حية، تعيش في ذاكرة ووجدان الجيلين اللذين تليا الجيل الذي عاصر تلك الأحداث. أما الوقائع التي فات على وقوعها أكثر من مئة وخمسين عاما – على اعتبار أن أمد الجيل الواحد خمسة وعشرون عاما – فيمكنها أن تجعل الرواية تاريخية وهي نوع سردي يعنى بوقائع العصور الماضية والوسطى والقديمة الغابرة.