السلام المشؤوم... بين الانتصار والانكسار

آراء 2024/11/13
...

 د. حيدر عبد السادة جودة

علّمنا التاريخ في طِوال رحلتهِ وشهادتهِ في الحروب البشريَّة، أنَّ الأخيرةَ أمام طريقينِ وثالثٍ مرفوع، فأما الانتصارُ أو الانكسار، أما أنْ ينتصرَ الفريق الغازي، فيضمن بذلك سيطرته وسيادته على الفريق المغزي، والاستيلاء على الموارد المتاحة، أو يُقاوم الفريق المغزي فيكسر شوكة الغازي، فيُحافظ على أرضه وشرفه وموارده، فيعود الغازي مُثقلاً بخسائر الهزيمة التي قصدَ بها الانتصار.
أما الطريقُ الثالث فيظهرُ في ديمومةِ الحرب واستنزاف قِوى الطرفين من دون انتصارٍ أو انكسار، فيدخلُ في الحربِ أطرافاً خارجيَّة تقصدُ طلبَ الهدنة وإيقافِ إطلاق النار، ويمثّل هذا الطريق صورةً أُخرى من صور الهزيمة، لأنَّهُ لا ينتهي إلّا على ركامِ آلاف الجثث وأنقاض البنايات.
وقد حُدّد سنوياً يوم 21 سبتمبر، يوماً عالمياً للسلام، وهو إيذانٌ بضرورة إيقاف الحرب وممارسة العنف، كما ويصلح للاحتفال بوقف إطلاق النار. لكنْ يجدر الالتفات إلى أنَّ مفهوم السلام في الفكر السياسي الحديث قد تحوّل إلى أداةٍ بارعةٍ في الهيمنةِ والاستيطان، لأنَّ المسؤول عن فرضِ السلام من الدول أو المنظات، من الممكنِ أنْ تبيع ذممها وحرصها على تقعيدِ قواعد السلام لصالح طرفٍ دون آخر، فالعصرُ الحديث كما هو معهودٌ هو عصر الأداتيَّة، بمعى أنَّ الدول الكبرى قد تدخل الحرب من دون أي بارودٍ أو رصاصة، فهناك من يتصدى في الذبِّ عنها، وهناك من يسحب المعادلات نحو تحقيق مشروعها الاستيلائي.
ما يهمّنا من هذه المقدمات هو الحرب المستعرة بين الكيان الصهيوني من جهة، وفلسطين ولبنان واليمن، من جهةٍ أخرى، وسنشهدُ في الأيامِ التالية نوايا حقيقيَّة لفرضِ السلام، لأنَّ الحرب لم تأت ثمارها لطرفٍ دون آخر، فقد لاحظت "إسرائيل" أنَّ هناك مواجهة شرسة من قبل المقاومة، وأخطأت في توسيع دائرة الحرب، الأمر الذي سيجعل انتصارها مستحيلاً، كما وأنَّ انكسارها قد يكون صعباً أيضاً، لأنها تختبئ تحت عباءة المارد الأميركي العنيد، الذي يستعملُ "إسرائيل" أداةً للدفاعِ عنه ضدَّ إيران،
لكنْ أيُّ سلامٍ ذلك الذي نتحدث عنه؟ هل يمثّل حياداً ووقوفاً وسطاً بين الطرفين؟ هل سنشهدُ ثمار إيقاف العنف والعبث "الإسرائيلي" بلوائحِ حقوق الإنسان من دون أنْ ينتصر الواحد على الآخر؟. بالطبع لا، فكما أسلفنا، بات السلام يمثّل أداةً للهيمنة والاستيلاء.. أداةً تتحرك بوفق الغلبة والشوكة. السلام اليوم وسيلة لانتصار الأقوى من دون الحاجة إلى صراعٍ أو قتال. ولهذا ستستميتُ "إسرائيل" في سبيلِ الرضوخ – خديعة - إلى السلام، لأنَّ ذلك سيضمنُ لها حقَّ تملك الأرض التي كانت
حلماً بالنسبة لها.
والأمورُ واضحةٌ من حيث طبيعة الأطراف التي ستتدخل في سبيل إعلان ذلك السلام، فهي على جهتين، إما أنْ تكون منظماتٍ عالميَّة، كلجنة حقوق الإنسان ومجلس الأمن الدولي وغيرها، وهي أدواتٌ خاضعة للهيمنة الأميركيَّة، أو دولاً عربيَّة مطبّعة، وهي أدواتٌ تحت رعاية الكيان المحتل. ولهذا فالسلام سيكون من نصيب "إسرائيل"، لأنَّ المقّعدين لقواعد السلام ما هم إلا أدوات فاعلة وأوراق رابحة بيد أميركا والكيان.
والحقيقةُ أنَّ من أكبر المآزق التي ستواجه القضيَّة الفلسطينيَّة منذ فتيلها الأول وإلى غاية اليوم، تتمثّل في وقوفها أمام خيارين، الأول في وقوعها تحت سطوة الأقوى، والذي مارس خيارات القمع بأسفَرِ صوره، وهذا ما سيدفعها نحو الخيار الآخر، المتمثّل بقبولِ فكرة السلام التي ستُقّدم من قبل الأطراف المذكورة، ونتيجة لدهاء الكيان الصهيوني، وعُجالة رجال المقاومة، سيكون الخيار بيد "إسرائيل"، لأنها تمتلك ذريعةً خبيثةً تتمثّل بمن بدأ الحرب، فقد أعطت مساحة لشنِّ المقاومة الفلسطينيَّة صولتها المعروفة بـ(طوفان الأقصى)، فتحوّلت هذه العمليَّة إلى ورقةِ ضغطٍ رابحة بيدها، تحت ذريعة (هم من بدأوا الحرب)، وما نحن إلا ردود فعلٍ دفاعيَّة، فيجبُ أنْ يتحملوا نهاية ما بدأوه. والمشكلة، بزيفها وخداعها وبمختلف تبريراتها، أنها ستلقى قبولاً صارخاً ومؤكداً. فتنتَهي هذه المعركة بوضعِ المقاومة الفلسطينيَّة أمام حرج الخيار بين أحد الطريقين، أمّا الاستمرار في القتال، أو تحقيقِ السلام المشؤوم، والذي سيضمن للكيان حق التملّك، والأوضاع تسير نحو الأخير، وقد تنبّهت "إسرائيل" لهذه النهاية، فعملت على ضرورة القضاء على من يمتلك (لا) الرفض وعدم الانصياع والركون لطاولةِ المفاوضات، فبدأت بإسماعيل هنيَّة وانتهت بالسنوار، مروراً بسيد الـ(لا) حسن نصر الله وخليفته هاشم صفي الدين. وعملت من جهةٍ أخرى على عدم التصعيد ضد إيران.
وبالأخير، ستقفُ الحربَ على ركامِ آلاف الشهداء، سيأتي السلام وهو حاملٌ بين ثنايا ذراعيهِ إكليلاً من الشوكِ، تُمَزق به رؤوسَ البرايا تحت يافطة إيقاف الحربِ من أجل السلام، ستُتحقّق غايات أرباب القرار، وستدفعُ الأدوات ويلات هذه الحرب، وتبقى القضيَّة الفلسطينيَّة تحت أنظار أشدُّ المزورين في نصرتها، وستُعقد التحالفات وتأمن الأوطان الأخرى وستنعم عيون الخائنين، وسنؤزم في تحضير إجاباتٍ شافية لتلك الأرواح التي زهقت من دون حق.